بقلم محمد بصري*
الوجودية هي فلسفة البحث عن الماهيات شكل من التأريخ الثقافي للإنسان وهو يعيد انتاج وعيه بذاته و بالعالم. مارتين هايدغر هو الفيلسوف الألماني الذي نقل النزعة الوجودية إلى تصورات حداثوية أي من طاحونة الوجود إلى التفكير في الكينونة بدل أن نطرح السؤال هل أنا موجود؟ إلى سؤال كينوني؟ من أكون؟ قد يكون براديغم ناجز ونقدي في المركزية الغربية التي استأنفت نسقها الثقافي من الإغريق إلى. ديكارت الذي أسس الكوجيتو على صلاحية العقل في الوجود الذي هو فضاء اشتغلت عليه ثقافات شرقية غنوصية وثقافية عربية وإسلامية صوفانية.
قصة مارتن هايدغرMartin Heidegger 26 سبتمبر 1889 – 26 مايو 1976 مع الفينومنولوجيا مخاتلة وعميقة وسرية إلى درجة التناقض. هو التلميذ المُتمرّد في مدرسة ايدموند هوسرلEdmund Husserl 8 أبريل 1859 – 26 أبريل 1938حتى بات كل تحليل هايدغري موسوم بالفينومنولوجيا متهم بأيديولوجيا أنطولوجية .هذا المفكر حَوّل علاقة الذات بالظواهر إلى أيديولوجيا، حارسها الدزاين وموضوعها الكينونة .كما يقول الدكتور محمود خليف خضير الحياني أن هوسرل خاب ظنه في تلميذه النجيب واصفا موقفه التأويلي من الظاهراتية بالمتخاذل .أعتقد أنه موقف مأزوم أيضا حين انكبت الفينومنولوجيا على التأسيس لعقيدة قومجية وسياسية. تَعرّض المسار الثقافي لهذه المدرسة الجليلة في الفلسفة إلى الانكسار في وحل الأيديولوجيا والسياسوية. المنعرج الفينومينولوجي الذي سبق الثورة اللغوية الهيدغيرية. الكلمات هي سلوك صوفي اشراقي وهنا يربط هيدغر اللغة بالحقيقة أو بنمط من التأويل الذي رفضه هوسرل الذي بات مقتنعا أن الظواهرية انفرط عقدها مع ميتافيزيقا متعالية وانفلت مع مثالية مجردة، اقتحم بها هيدغر الشعور بالمعيش بل همه كان تشتيت القصدية وتهشيمها كونها المركز الصلب للفينومنولوجيا والتي سيجهز عليها أحد المراقبين للمدرسة وهو جاك ديريدا “كلمة A- Lethea وتعني اللاتحجب والانكشاف والتفتح ” [1].
هوسرل تفاجأ بِتحوُل هيدغر عبر منعرجه الفلسفي المغاير لأسس فينومنولوجيا كلاسيكية الخطير وهو يتصفح كتابه “الكينونة والزمن” فهو انشقاق وتمرد ميتافيزيقي غير معلن إنه إعادة صياغة لجوهرية الوجود المؤنسن داخل الوجود أي ارباك العلاقة الفريدة بين الوعي والعالم والتي سيجعلها هايدغر أصيلة وذات معنى وفي هذا تغدو محاولته استرجاع الميتافيزيقا في الوجود بعد أن عزلها أستاذه هوسرل كونها انتقاص من إعلان الماهية، أو هي ماهية غير مكتملة تحت تهديد الوعي الزائف بوجود ناجز ومسبق ومتعالي يتجاوز الوجود الحقيقي. هايدغر يعتقد أن اللغة تفضحُنا فهي معيار حقيقي للسكن داخل الوجود ومفرداتها وألفاظها الدالة تكتسي اختبارات صوفية تُعلن فيها معان تتجاوز المعطى الحسي والاختباري الذي أصرّ عليه الكلاسيكيون الذين يعتقدون أن دزاين هايدغر هو مكان موحش ومُقفر للماهية بل هو إقصاء لها وتجاوز لحضورها الماهوي الواعي القصدي حين نسقطها في لعبة اللغة وغوايتها الشعرية فبدل أن يكون هناك حضور ماهوي للوجود أضحى حضورا شعريا يلاعب و يراقص اللغة أي بدل أن يكون هناك حضور كينوني واعي يَتَقصّد وجوده ويعيه، هناك كيان لغوي محايث للوجود ننجرف به إلى معرفة الوجود فيه كوننا كائنات لغوية مستقلة.
عمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas 12 يناير، 1906 – توفي 25 ديسمبر، 1995 وهو التلميذ الذكي في مدارس الوجودية الحديثه الثائر على أستاذه هايدغر ربط الوجود بالذات ربطا اختزاليا لم يعد الموضوع هو الذي يحدد علاقتي الفنومينولوجية بالذات وليست التصورات والأحكام الفرضيه هي التي تؤلف الشعور مع الواقع. بل إن كل ذات لها موضوعاتها الخاصة فحقل التأمل الفردي هو إرث موضوعي للتأملات الوجودية والأخلاقية ولا علاقة للآخر بما أدركه أو بما يتحرك داخل الموضوعات التي أتاملها. وجودية هايدغر عملت على زحزحة التصور التقليدي لعلاقة الذات بموضوعاتها. تخليص الماهية من عفويتها وسذاجتها بإقحامها في عالم الكثرة تحريرها من إرادة واعية تعمد على توجيهها واستنزافها ميتافيزيقيا.
المأزق الفينومينولوجي يبدأ من مطارحات هايدغرية غير مستساغة لهوسرل فالتمرد الهيدغري حوّل الفضاء الرؤيوي الظاهراتي من معركة الوعي المعرفي إلى وعي الأنطولوجيا “بنقل الفينومينولوجيا من دائرة الإبيستيمولوجيا إلى دائرة الوعي في علاقته بالعالم إلى الوجود الانساني في علاقته بالعالم” [2] فالتفكير أداة الدزاين وجوهر وبؤرة الدلالات لا يمكنه أن يغرق الوجود بفائض المعنى إلا تحت إيقاع الشعر واللغة .الرهان هنا على نقل الوعي من المعرفة إلى اللغة. هذه الحركة الابيستيمولوجية تُقوِّض سردية الفينومينولوجيا التقليدية بمقاربة اللغة /أنطولوجيا لا يوجد شيء في الوجود لم تقله اللغة هذه الأخيرة هي مرآة الماهيات فإذا كان الفكر هو نمط من السكن فاللغة بيت الوجود فهو ينكشف وينفتح داخلها وأمام إمكانيات تماهي الظواهر وعدم تحجبها إزاء بعضها البعض. التفكير ينتفض في الوجود عن طريقة وثبات، هو يتشكل حسب التجربة الباطنية التي تقرأها اللغة والتي تمده بوسائله الأساسية لا يوجد تفكير معرفي أو تأملي أو بؤرة الشعور وجوهره أو حتى تفكير تقني معزول عن أصالة الوجود نحن نبتكر عن طريق ماهية اللغة ما نسميه تفكير أساسي أصيل.
هيدغر عمل على تقويض أطروحة أستاذه ادموند هوسرل في علاقة الوعي بالعالم الخارجي وفق إرادة وقصدية بتعويضها من الابيستيمولوجي المعرفي إلى الأنطولوجي. الوعي ليس أداة معرفة بل هو أسير للغة ومستعبد لدرجة السخرة.فنحن لا نجد طريقنا للوجود عن طريق الوعي الهوسرلي بل بواسطة اللغة والشعر.
الوجه هو موضوع الوجودية بدل النزوع إلى الاصغاء فقط إلى الماهيات عند ليفيناس يجب الانكباب على محتوى أخلاقي مختلف للماهية . نحن لا نتوصل أخلاقيا إلا عن طريقه كمعطى وجودي. النزعة الإتيقية لليفيناس ضد التفكير الماهوي الهوسرلي وضد المبالغة الانطولوجية ما يدعوه تضخيم الكينونة لهيدغر. هو نتيجة بؤس ميتافيزيقي ويأس ثقافي من العلوم الإنسانية التي كانت تتجه مباشرة إلى الاعلاء من فلسفة علموية وتقنية جامدة. هوسرل لم يتخلص من ثقافته الرياضية وهو يُعوِّل على التماسك التأملي الديكارتي فهو يصادر العقل المحض الكانطي لصالح كوجيتو ديكارت لكنه لا يعطي تصورا واضحا أو حلولا للإبوخيا Epoche حين تتعطل الأحكام يتوقف الوعي عن الحكم لكن العالم يبقى ماثلا أمام تردد القصدية.أعتقد أن الإبوخيا هي إعلان هوسرلي لدوكسا doxa مُرعبة حين يحيد الوعي ويغدو مجردا من إدراكه الارادي عن غاياته وينحو نحو اللاحكم والتنصل من أسسه المنطقية.
ليفيناس دافع مع مريديه بدعاوى الخروج من هذه المتقابلات المجردة و الرجوع إلى السلوك الاخلاقي كونه الفضاء العرمرم لعلاقة بين الذات والآخر البحث عن تشابك فينومنولوجي خارج التعالي الهوسرلي والمنعرج اللغوي الهيدغري الذي ضحى بجهود الدزاين وصادره آخر مهمة في الانتقال إلى الهنالك. لأن كل مبحث وجودي يتقاطع سلفا مع ميتافيزيقا أخلاقية .
الوجه هو آلية تواصل ودال وعلينا أن نكف من توصيف اللغة كأداة للاستعمال فقط عمانويل ليفيناس دحرج الكرة من فوق على رؤوس الفينومنولوجيين حين لم يستبعد الميتافيزيقا فهي الرقم الصعب في الفلسفة فهو يؤكد طبقا لطبيعة ثقافة دينية تلمودية أن العقل لا يدرك الأشياء تبعا لنظام إدراكي أو لنمطية واعية متعالية معينة بل أن الوجه le visage أو face هو آلية التواصل هو عنوان ماهية الانسان بل الجزء الميتافيزيقي الخطير في الإنسان .الوجه هو بؤرة الماهية بل هو سر الله في موجوداته البشرية هو الظاهرة الوحيدة الإتيقية الأوفر حظا ميتافيزيقيا و التي بإمكانها أن تطلعنا على سلوك الآخرين.
ليفيناس كان يبحث عن فضاء جديد ما بعد هايدغرية نظرا لعدم وثوقه في فلسفة غريمه ومعلمه بعد خطاب التنصيب ماربورغ 1933 لكن كان على الفيلسوف التوراتي أن يعيد حساباته المذهبية والثقافية لأن إسقاط هيدغر في الرذيلة النازية لا يعفيه من تزعم التقاليد الحداثية فكل فكر وجودي ماهوي عميق ترقد تحته نصوص الدزاين لا يمكن أن تستمر الحداثة ومابعدها دون مارتن هايدغر.
الفلسفة طبقا لتصورات لروديغر سافرانسكي صاحب كتاب “معلم ألماني هايدغر وعصره أن الفلسفة هي استقواء على العصر الذي تعيشه ” [3]
نصوص هايدغر تشبه السِحْر هي تتطلب قوة إدراك فلسفة لرهبة تجريدها وقوة عمقها .اللغة التي يستعملها هذا الفيلسوف الآلة هي خطاب تاريخاني حول الوجود تتوازى مع ثقل الفكرة التي تتوارى تحت رسم كلماته. هو يشبه الشيطان حين يعزف آخر معزوفاته الخيرة التي طردته من نعيم الجنة. خطاب التنصيب كان مِفْصلا جعل ضمير الدزاين يهتز ويعيد تشكيل هويته نحو خلاص هوياتي لم يفتأ أن اضطرب أمام قوة القيم الفلسفية وعاد إلى رشده اللغوي.
محمد بصري باحث من الجزائر
الهوامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش
1- انظر ميرنا سامي هايدغر والدين السفر في اللغة والسكن إلى جوار الله الاستغراب 2016 .
2- محمود خليف خضير الحياني ماورائية التأويل الغربي الأصول المناهج المفاهيم منشورات ضفاف ط 1 صفحة 135.
3- انظر ادريس الخضراوي هل كان هايدغر عرقيا 09/ماي /2020.
*باحث جزائري.