الدكتور صالح الطائي
ليس خافيا الدور التخريبي الذي مارسه الموظفون الدينيون، وهم رجال وظفتهم السلطة أو هم نذروا أنفسهم لخدمتها لأسباب كثيرة يطول شرحها، والبستهم أو لبسوا باختيارهم أو بدفع من جهات سرية خفية ثيابا دينية كهنوتية، وبدأوا يمارسون لعبتهم التاريخية في تغيير مناهج السماء على هواهم دونما رادع، فقد تسبب هؤلاء في كل الأديان التي انتسبوا إليها في إحداث ردة فعل عكسية لدى الناس، دفعت بعضهم للخروج من الدين واحتقاره، ذلك لأن الإنسان منذ أن يبلغ العاشرة من العمر فصاعدا يصاب حينما يرى انحرافا فيمن يُفترض به أن يكون القدوة، برد فعل تكيفي تجاهه، بفعل تكرار التجربة وتكرار النتائج، وهو ما أطلق عليه عالم النفس الروسي إيفان بافلوف تسمية “المنعكس الشرطي”، فالإنسان بذلك العمر ـ على سبيل المثال ـ لا يلمس النار متعمدا بسبب الأذى الذي تسببه له، وقد تعلم ذلك من خلال التجربة واللسعات التي أصيب بها في كل مرة حاول فيها لمس النار، بمعنى أن التجربة هي التي خلقت في يقينه منظومة الحماية أو المنعكس الشرطي.
وقد خاض الفيلسوف ميشال أونفراي واحدة من تلك التجارب ذات المنعكس الشرطي بعد أن بعثه والداه وهو في عمر العاشرة إلى “مبيت كاثوليكي” بقي فيه لحين بلوغه الرابعة عشرة، وقد تحدث عن هذه السنوات الأربعة في كتاب له بعنوان “قوة الوجود”، ووصفها بالسنوات الجهنمية القاسية، لأنها كانت ظرفا صعبا بالنسبة إليه وإلى زملائه بسبب أفعال وسلوك الكهنة المستبدين؛ الذين كانوا لا يخجلون من استغلال نفوذهم التسلطي لاغتصاب طلابهم، وممارسة الجنس معهم، وبالنتيجة ترك الدين والكنيسة، وألحد بسبب تلك التجربة، بل وظف إمكاناته العلمية لفضح تلك المناهج والترويج للضد منها بعد أن أطلق عليها تسمية “الخرافات الرسمية” بأنواعها: الدينية والسياسية والأخلاقية والفلسفية، لأنها وفق قناعاته تعمل على تشجيع وحث الإنسان، بل وتدفعه عنوة لينسى العالم بكل جماله النقي، ويغفل عن الاستمتاع به. والذي أراه أن أونفراي لو لم يمر بتلك التجربة القاسية التي أجبره الكهنة على خوضها ما كان ليوظف كل قدراته الفكرية لمحاربة هذه المضامين الحياتية التي يراها بعضهم سامية أو مقدسة.!
وليس الاستغلال الجنسي وحده يتسبب في إحداث المنعكسات الشرطية، فكل عمل كهنوتي خارج سياقات إرادة السماء هو محفز للانعكاس، ويعطي نتائج ضررها وخيم ومدمر، لا على الدين وحده، بل على المجتمع كله، وللأسف مرت جميع مدارسنا الإسلامية التي لا تملك سلطة اختيار من يلبس اللباس الديني، ويتحدث نيابة عن الله تعالى بمثل هذه التجربة من حيث التأثير لا من حيث الممارسة. فالكهنة (المصنعون) أساءوا للعقيدة بسبب أفكارهم المنحرفة والشيطانية؛ التي تتهيب السلطات السياسية والقضائية من الوقوف بوجهها إما خوفا على المناصب أو لكي لا تتهم بأنها معادية للدين او تتهم بأنها طائفية منحازة لفئة دون أخرى.
وإذا ما عجزت السلطات القضائية والسياسية عن أداء دورها، وهي تبدو عاجزة بالتأكيد، بدلالة انتشار التخريب تحت مسميات (معممة)، فإن رجل العلم والأكاديمي المتخصص والباحث الجاد ورجل الدين المتنور الحقيقي لهم قدرة خلق الاستجابة المناعية في الإنسان، وتوجيهه للحد من حالة التضاد الفكري التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم، ولاسيما بعد أن فتح الانترنيت والقنوات الفضائية الباب واسعا أمام انتشار الأفكار المنحرفة دونما رقيب، وعجزت المؤسسات التعليمية عن أداء رسالتها الإنسانية بسبب المنافسة.
إن الكثير من الكهنة يمتطون اليوم ظهور الفضائيات المأجورة ليؤلبوا اتباعهم من خلال التحريف والتزوير والدس والكذب والتدليس على مسلمين (مدارس ومذاهب) آخرين لمجرد أنهم يختلفون معهم في بعض مباني العقيدة الثانوية، في الوقت الذي يحابون فيه العدو، ويتناغمون مع تطلعاته، ويتغافلون عن جرائمه، بل ويمنعون الناس من التصدي له، مثلما يحدث اليوم مع أهلنا في غزة الصامدة ولبنان البطلة واليمن الثائرة، وهذا وحده كاف لتعريتهم وفضحهم وتبيان أثر دورهم التخريبي على الدين والمجتمع، ويحملنا مسؤولية التصدي لهذا الفكر المنحرف بكل السبل المتاحة ودون هوادة قبل أن يستشري الشر ويعم البلاد والعباد.