بقلم: الدكتور بلعاليه دومه ميلود
يبدو أن كل منظومة خطابية تستند، بوعي أو بغير وعي، إلى مجموعة من المسلّمات هي بمثابة إعلان ضمني عن القصدية الأولى. وانطلاقا من هذه القصدية الأولية يتم تحميل الخطاب، بفعل انتقائية ما في الغالب، “قيما نظرية قاعدية”، هي محور العملية الخطابية ككل، تماما مثلما هو الحال في الخطاب السياسي أو الديني أو الإعلامي إلخ … كذلك الخطاب الفلسفي هو الآخر لا يشذ عن هذه القاعدة العامة، وأيا ما كانت مضامينه، فهو خطاب تؤطره قصدية اساسية هي ما يمكن أن نصطلح عليه بـ: “قصدية الحقيقة”، ومن ثم فاستراتيجيته البيداغوجية تتحدد بمدى قدرته على “تبرير” مزاعمه في طلب الحقيقة، و لكن المفارقة هنا هي أنه بسبب هذا التبرير ذاته يضطر الخطاب الفلسفي إلى مساءلة قصديته الأولى، أي أشكلة مفهوم “الحقيقة” ذاته، ولعل هذا هو السبب في أن صار الخطاب الفلسفي يقدم في الغالب على أنه ضرب استثنائي من الخطابات، يمكن وضعه في صورة “خطاب استشكالي بامتياز ” ، وما ذلك إلا لأن “معنى التفلسف هو أن تجرؤ على إعادة التفكير في الأسس، أي أن تطرح السؤال حول ما هو أولي، و أي جواب أكثر أولية لا يمكن أن يكون إلا عين فعل السؤال ذاته .
إن هذا الطابع الاستشكالي هو الذي أمست تمرره الرسالة البيداغوجية للفلسفة، وذلك بخاصة بعد فقدان الفلسفة لدورها النسقي الريادي في التأسيس للمذاهب والنظريات والأنساق الكبرى، تحديدا بعد استقلال الأنظمة الخطابية الأخرى، لدرجة أن عوملت، في أكثر أحوالها تواجدا، كما لوأنها “ميتا ــ خطاب”(Meta-discours)، يُحمَّل هو الآخر مجموعة من “القيم النظرية القاعدية” تؤهل متلقيه للانخراط، على الأقل من الناحية المبدئية، ضمن “الجماعة الفلسفية”، وهذه القيم هي التي صارت تشكل اليوم ـ في رأينا ـ المضمون البيداغوجي للخطاب الفلسفي والتي يمكن تصنيفها، حسب الفيلسوف التونسي “فتحي التريكي”، إلى ثلاث قيم أساسية:
أولا: قيم نظرية خاصة بالفلسفة النظامية: وهي قيم تعمل على إقرار النسق في التفكير الفلسفي مثل قيم الكلية والمعقولية والجوهرية … ومن ثم إقصاء طابع العفوية والفردية وكل ضروب الممكن والمتخيل واللامتجانس من دائرة العلم.
ثانيا: قيم نظرية خاصة بخطاب الفلسفة اللانظامية: وهي القيم التي تنشأ في الغالب، سواء بصورة ضمنية أو معلنة، بسبب ضرب من التفكير الفلسفي “المرتبط بالمعقولية الحالية التي ترعرعت في العلوم المختلفة كالميكانيكا الكمية أو كفيزياء اللاتوازن أو نظريات الأنساق الدينامية وغيرها، والتي فتحت آفاقا جديدة في نظرتنا على الزمان والحياة والطبيعة وأعطت أهمية أكبر إلى الجزئي وإلى الممكن والصدفة بصفة عامة كعناصر فعالة لتصورنا للمكان وللزمان”.
ثالثا: قيم نظرية خاصة بالفلسفة العفوية: وهي قيم تظهر بسبب من التفكير ـ الشخصي عادة ـ الإبداعي الحر داخل الممارسات الخطابية غير المحسوبة على الفلسفة النظامية، مثل الدين والفن، وهي في الغالب “فلسفة عفوية تهتم، والقول لفتحي التريكي، بقضايا مرتبطة بالتفكير وعناصره ولكنها لم تكتسب الوضوح والدقة والشمول” .
بناء على هذا التصنيف التاريخي لقيم الخطاب الفلسفي تتوقف عملية التوصيف المفهومي لكيفية اشتغال الخطاب الفلسفي من المنظور البيداغوجي المعاصر، وهو المنظور الذي يستدعي خطاب الفلسفة كخطاب تعليمي يراد منه ابتداء تنمية وترقية ملكتي النقد والتحليل بدل ملكتي البناء والتركيب الشموليين، وذلك تحت تاثير خطاب “الأزمة” الذي طال الفلسفة النظامية في عمقها، بل في سبب وجودها وهو “النسق”، خاصة بعد تفجر الأنساق الفلسفية الكبرى على غرار الهيغلية وبروز فلسفات الارتياب على أيدي أقطاب المساءلة الفاسفية الجذرية أو أساتذة التشكيك كما يسميهم بول ريكور، وأهمهم ماركس، نيتشه وفرويد.
لقد أخذت الفلسفة منحى إستراتيجيا جديدا في القول هو ما يمكن أن نسميه “إستراتيجية القول الفراغي” ميزتها الأساسية النقد في صورته القصوى، بحيث لم يعد بإمكان الفلسفة الدفاع عن مركزيتها الخطابية، بسبب صعود الخطابات (الهامشية) واحتلالها المراكز ضمن دوائر القول المتعددة، كل ذلك من شانه أن يقلل من الطموح الفلسفي في أن يتحول خطاب الفلسفة إلى ضرب من “الخطاب البديل” ، إذ عليه أولا أن يفكر في ذاته اليوم وأن يعيد النظر في مكانته ذاتها وفي طرائق اشتغاله، بالنظر إلى التحولات العميقة في بنية المفهوم الفلسفي ذاته، وهو الأمر الذي حدا بكثير من الفلاسفة المعاصرين ( خاصة الذين استلهموا فلسفة نيتشه، على غرار الفيلسوف “ميشال فوكو” و”جيل دولوز” و”جاك دريدا”)، إلى قلب وجهة التفكير في الفلسفة اليوم، والدعوة إلى مبدأ جديد هو “مبدأ التفكير بوجه مغاير”، مما يوحي بضرورة الانتباه لإستراتيجية جديدة للخطاب الفلسفي، تتحدد على ضوءها مهمة الفلسفة البيداغوجية والتي يمكن حصرها ضمن مجموعة القيم الوظيفية ( التي نعتبرها وظائف بيداغوجية بامتياز) و التي أشار إليها الأستاذ “فتحي التريكي”بوضوح شديد، أعني قيما من قبيل: النقد والتحديد والتوضيح والتشخيص والتنظير.
ننتهي إلى القول في الأخير إلى أن هذه القيم الوظيفية تشكل إذن قيما قاعدية في التأسيس للخطاب الفلسفي من وجهة نظر بيداغوجية، وهي قيم تستهدف إمكانية تحرير الممارسة الفلسفية من كل نزعة دوغمائية من جهة، ومن كل نزعة عدمية من جهة ثانية، و تؤكد على أن الانسياق وراء أي نزعة من هاتين النزعتين إنما هو بسبب عدم إدراك طابع المفارقة الأساسي في كل خطاب فلسفي، أعني بالأساس: مفارقة النظرية والواقع.
جامعة الشلف/ جريدة الجمهورية