حاتم السروي
تجربة مهمة للغاية قدمها لنا عام 1957م عالم الأحياء والوراثة بجامعة “جونز هوبكنز” الأمريكية، وهو الدكتور “كيرت بول ريشتر” المتوفى سنة 1988م.. تجربة تحمل الكثير من معاني الأمل والتفاؤل القائم على العمل لا على الأمنيات، وأبطالها مجموعة من الفئران!.. ولهذا كتب الصحفي العلمي الأستاذ “حسن فتحي” عن هذه التجربة مقالة نشرها ضمن كتابه “عندما يتكلم العلم.. إسهامات في حياة الإنسان” والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2021، وعنوان المقالة: “خذوا الحكمة من الفئران”!!
والحق أن تجربة “ريشتر” التي يدرسها طلاب قسم “الفلسفة وعلم النفس” في الكليات، كانت مرعبة في بادئ الأمر، لكنها في مرحلتها الثانية كانت رائعة، حيث كشفت عن مغزى الحياة.
كان مراد الدكتور “ريشتر” الأساسي أن يدرس مدى قدرة الفئران على برمجة سلوكها، فأخذ مجموعة من الفئران، ووضع كل فأر منها في إناء كبير ممتلئ بالماء حتى منتصفه، وقد آثر الدكتور أن يحضر الآنية الزجاجية الملساء حتى لا تستطيع الفئران تسلقها ومن ثم القفز خارجها. بعد ذلك أخذ “ريشتر” في حساب الوقت الذي يستغرقه كل فأر في السباحة ومقاومة الغرق ومحاولة الخروج قبل الاستسلام للموت.
وكما أن البشر يتفاوتون فيما بينهم في مقدار تحملهم وقدرتهم على مقاومة الظروف، فكذلك الفئران اختلف بعضهم عن بعض؛ إلا أن متوسط وقت المحاولة للفئران عمومًا كان مقداره ربع الساعة، وبعدها يستسلم الفأر للغرق.
وبعد موت الكثير من الفئران، أعاد الدكتور “ريشتر” تجربته مع إدخال تغيير مهم، حيث كان يراقب الفئران وهي تسبح، وعندما يرى الفأر وهو على وشك الاستسلام ينتشله فورًا من الإناء ويجففه ويتركه ليستريح بعض الوقت ثم يضعه مرة أخرى في الإناء!
فعل ذلك مع ما تبقى من الفئران وأخذ كعادته يحسب متوسط الوقت الذي يسبح فيه الفأر مقاومًا للهلاك، واكتشف “ريشتر” أن متوسط الوقت في المرة الثانية كان 61 ساعة!! وقد يتصور القارئ الآن أن ثمة خطأ في الكتابة، وأن المتوسط في الحقيقة هو 61 دقيقة، لكن الفئران استمرت بالفعل كل هذه الساعات؛ بل إن أحدها استمر لمدة 81 ساعة على وجه التقريب!!
ويعتقد علماء النفس أن الفئران ماتت سريعًا بعد 15 دقيقة فقط في المحاولة الأولى لأنها فقدت الأمل وتيقنت من عدم وجود المخرج؛ على أنها في المرة الثانية كانت قد اكتسبت خبرة واستقر فيها معنى الأمل، وأصبح لديها رجاء أن تمتد إليها يد الآدمي لتنقذها؛ ولهذا استمرت أكثر في السباحة في انتظار الفرج والمعونة.
والحق أن جميع الكائنات تمارس حياتها بالأمل، حتى إن الفئران – وهي كائنات كثيرة الخوف، معتادة على الهروب- تجعل لبيتها عدة مخارج حتى لا ينغلق أمامها باب الأمل في النجاة..
ولا شك أن تجربة الدكتور “ريشتر” تنم عن الارتباط الوثيق بين القدرة الجسدية والحالة النفسية؛ فالشخص المكتئب دائمًا بلا طاقة، وقد ينام البعض 8 ساعات مثلًا وحين يستيقظون يشعرون بالتعب والإعياء! وما ذاك إلا بسبب عدم رغبتهم في الذهاب إلى العمل الممتلئ بالظروف النَّكِدَة والشخصيات السامة.
وفي المقابل نجد من ينام لمدة ساعتين أو ساعة واحدة فقط، وحين يرن المنبه يهب من رقدته فيرتدي ثيابه ويذهب إلى العمل الذي يرى أنه ينجز فيه ويتحقق ذاتيًا ويشعر بالتشبع النفسي ويفرح لما ينجزه فيه.
ويعني ما سبق أن الطاقة اللازمة للعمل تتواجد في الأشخاص البالغين عادةً؛ إلا أن ما يثنيهم عن الحركة هو انعدام الرغبة، أو فقدان الشغف، أو ضعف الإرادة؛ فالحالة النفسية السيئة تخلق ضلالات مؤثرة على الذهن، والذهن بدوره يفرض قيودًا على قدرات الجسد فيشعر الإنسان بالفتور، أو يتوهم وجوده وهو غير موجود على الحقيقة.
وفي بعض الدول النامية يتمثل السبب الأساسي لشيوع الاكتئاب في اليأس من تحقيق الحلم بسبب شيوع البطالة والفساد، أو في اليأس من إنجاز العمل على الوجه الأكمل أو في إنجازه من الأساس لشيوع حالة عامة من التخريب والأزمات الأخلاقية، وبالتالي تتحرك مشاعر الإحباط والاكتئاب.
ولا شك أن الأمل لا ينتهي وليس له حدود؛ فالذي يعتقد أن الوضع العام لبلده النامي لا يسمح بالعمل المثمر أمامه فرصة للهجرة والسفر طالما وجد في نفسه القدرة على الإنجاز في مكان آخر من الكرة الأرضية؛ وقد يحقق في هذا المكان الجديد ما لم يستطع الوصول إليه في مكانه الأصلي، المهم أن ينفض اليأس ويستمر في المحاولة طالما بقي فيه عرقٌ ينبض.
ولابد من معرفة أن ما نسميه بالعواطف والانفعالات ليس إلا مجموعة من التفاعلات الكيميائية الحاصلة في الجهاز العصبي المركزي الذي تؤثر فيه تجاربنا الخاصة ومعتقداتنا الداخلية، وهذه التجارب والمعتقدات تحدد من نحن؟ وكسيف سنتصرف؟ وما الذي سنصبح عليه؟ فالشخص الذي لديه رصيد من التجارب المؤلمة يصبح أكثر قلقًا، وربما تعجب البعض من قلقه البالغ على مشكلة تبدو لهم بسيطة؛ غير أنها بالنسبة إليه مسألة حيوية لا يهدأ ولن يهدأ إلا إذا تمكن من حلها.
إن الأفكار السلبية واليأس هما سبيل الموت المحقق، وبالتفكير الإيجابي يبقى المرء على قيد الحياة وتتعزز مناعته وتقل فرصة إصابته بالأمراض، فهذا التفكير يمنح قوة عقلية وبدنية أيضًا.
وفي إطار نشر التفكير الإيجابي يبرز الإيمان بالله كمعتقد نافع يمنح الإنسان صلابة داخلية ورجاء في الله الواحد الذي هو على كل شيءٍ قدير، ولهذا لم يلحد الفيلسوف البراجماتي “وليام جيمس” حيث اعتقد – ونعتقد معه- أن الإيمان بالدين يمنح السلوى والعزاء والأمل، ويحارب الشر الذي هو ضرر محض على الإنسانية.
ولا شك أن الإيمان ينشر الطمأنينة ويعطي قوة عظيمة لمواجهة سخافات الحياة وأذى البشر، وتحضرني في هذا المقام أبيات أعجبتني من قصيدة “المنفرجة” وقد جرت عادة بعض علماء الدين في القرون المتأخرة أن تكون لكل منهم “منفرجة” تحث على الأمل والتفاؤل وتنتهي بحرف “الجيم” والأبيات التي أعجبتني هي للشيخ “قطب الدين عمر بن محمد البكري اليافي” المتوفى سنة 1233هـ، وفيها يقول:
قُم واستنشِق نفحَ الفرَجِ.. واشْتَمَّ شذى ريحَ الأَرَجِ
واخضع بالذلِّ بباب العز.. ولُذْ بالصدقِ ولا تَعُجِ
واخلِصْ لله ففي الإخلاص.. سَنًا يهدي أَسْنَى النَّهَجِ
وإذا ما ليلُ الخَطْبِ سَجَى.. وغدا صبحُ الأكوانِ دَجِي
فافهم حِكَمًا لاحت بتجلِّي الحقِّ لمعنىً مُبْتَهِجِ
فالحكم له وهو الفعَّال.. فسَلِّمْ تَسْلَم تغدو نَجِي
فسَيُجْلَى ليلُ الخَطْبِ ويبدو.. فجرُ الحقِّ المُنْبَلِجِ
وسيَخْفى غَيْمُ العُسْر ويعْقُبُهُ.. يُسرٌ فاطرَب وهُجِ
وبذاكَ جَرَت عاداتُ الحقَّ.. تعالى ذي اللطفِ البَهِجِ
واصبر للحكمة إن بَرَزَتْ.. فالصبرُ مفاتيحُ الفَرَجِ
وإذا ما الأَزْمُ اشتدَّ فقُل.. اشتدي أزمةُ تنفرِجي
عزيزي القارئ، لا تنسَ أن أكثر ساعات الليل ظلامًا هي الساعة التي يعقبها الشروق، وأنه “من العمل يهلُّ فجر الأمل” فلا تستسلم للحزن لأنك خُلِقْت لتَسْعَد.





