عمر عبد الرحمن نمر
صدر الكتاب عن دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 سنة 2023م، تأليف الكاتب عصري فياض، وقد أهداه إلى روح الشهيد زياد الزرعيني… الذي استشهد في السابع من آذار 2023م، وقدم له الدكتور شادي الغول… وقد جاء الكتاب في 186 صفحة من القطع المتوسط، وتضمن مئة نص…
يؤثث المخيم الدائرة المركزية لبيئة النصوص السردية، كما تشكل مدينة جنين الحلقة المحيطة للحلقة الأولى، وبذا تتشكل من البيئة محطات للطاقة السردية، والتوهج الإبداعي، وتشارك مكونات هذه البيئة بكل اقتدار في بطولة النصوص كلها… فمنها تنطلق الكلمات، وتتشكل العبارات التي تعنون للممارسات الثورية الفلسطينية، وفيها يتوازى اللفظ مع الفعل، ومن رحمها تتخلق قيم الفداء والتضحية، والإباء والشمم.
ولعل في عنوان النصوص ما يدلل على ذلك، “جنين مريمنا البتول” حيث كانت الجملة الاسمية بمبتدأ مكاني، ثم تأنسن هذا المركب بالإخبار عنه وربطه بقدسية مريم، بتفاعل الجملة بالوعي الجمعي بإضافة مريم إلى “نا الجمع” “مريمنا” ثم إضافة صفة القدسية والطهر لهذا التآلف (البتول)…
إن المتأمل في هذه النصوص، يهاجمه أكثر من تساءل: ولعل في مقدمتها: هل تنتمي هذه النصوص لجنس الخاطرة كما أسماها وصنفها كاتبها؟ أم إن بعضها يقترب من جنس القصة القصيرة، “الاستقلال” مثلا… ص118، حيث التكثيف في الوصف والحدث والخاتمة… وبعضها يقرب من المقالة “ثورتنا والزمن” ص115… حيث الحدث ودلالاته والسيرورة الحكائية التي انطلقت من الصفر،وبدأت تتعمق في سرد جدلي… ومنها ما تناغم مع الحالة الشعورية فماثل الشعر “كلمات إلى أمي” ص67… لقد تعملق الأديب بهذا التنوع الإبداعي، واستطاع أن ينفذ من خلاله إلى عمق تشكيل الوجدان والثقافة والخيارات والاهتمامات في درجات متفاوتة من الشدّ والتوتّر حيناً، والليونة والارتخاء في أحايين أخرى، وذلك تبعاً للموضوع، والمحطة التي انطلق منها النص…
وليس من الصعوبة بمكان أن نتلمس في تطريز هذه النصوص، نوعاً من التمرد في ثنايا لون من ألوان الكتابة المنتمية لحيطان المخيم الثوري، والمدينة المناضلة (جنين) يتبدّى ذلك في معاني الخذلان العربي في الدائرة الأعمق، كما تظهر الغربة والاغتراب… وخيبات الأمل، وفي صراع جدلي لافت تظهر البطولات، وألحان الشهادة، ورايات النصر،وفي المشهدين المتضادين تتجلى البساطة والعمق، والتأمل الذي يحث على قراءة مستمرة للنصوص، واكتشاف مستويات عدة في قراءتها وتلمس مضامينها…
واللافت في تكوين النص هذه الصور المبتكرة التي تثير الدهشة، في بناء المدن الفلسطينية… حيث تذكر المدينة، وكأن الكاتب يبدأ ببنائها وإعادة تشكيلها من جديد… فتبدو نابلس “سيدة كتفاها عيبال وجرزيم، تنقل عليها جرة الدمع لتسقي أطفالها المقهورين، من المخفيّة لرأس العين، طوّق جيدها سبحة حباتها شُكّت من قرنفل وشقائق وإكليل غار” ص 13.
وعند التمعن في هذه الصورة المركبة، نجد تعالق المادي الجغرافي، بالمعنوي الوجداني، فبينما أظهر النص بعض تضاريس المدينة، أظهر في الوقت ذاته التعلق الوجداني بها، مما شكل صورة هي أقرب لحالة ثورية ” شُكّت حبّاتها من قرنفل وشقائق وإكليل غار… لتسقي أطفالها المقهورين…
وجنين “تلك هي المدينة السمراء المكتحلة بالقناطير والسواقي، هي جنين التي أرضعتها الأنفة، ومسح على جبينها الودّ، وجدّل ظفائرها لحن التراويد… فاستقام لها الزمان، ولم يجد التاريخ بُدّا إلا أن يصافحها… جنين قرينة مريم في الإيمان والطهر… ” ص7 صورة بكر مازجت التاريخ بالجغرافيا، وأسفرت عن هذه المخرجات التي تشع طهراً وقداسةً… وعلى المنوال نفسه غزل الكاتب مُطرّزة رائعة عن مدينة حيفا ” حيفا يا ملح البحر… يا حيفا أما أنت فلنا أيتها الشقراء… لا تنام الجفون إلا على راحتك… ” ص12.
وعند مطالعة نصوص المدينة عند الأديب عصري يلفت الانتباه توظيفه لأداة النداء “يا” يا نابلس ص13… يا حيفا ص 12 … جنين يا بلد الحرائر… يا بلد الرجال ص121، يا غزة قولي لهم ص124، يا عارة ص 96، وبالتأكيد فإن أداة النداء جعلت المكان قريباً منه، إضافةً إلى أنها جسّدت المكان وأنسنته… ويذهب الكاتب إلى أبعد من هذا عندما يجعل الشخصية تتماهى مع المكان…” لقد خلع بموتك قلب المخيم… ودفنت إلى جانبك ذكريات… جوهرها جميل،…” ص47…
وهنا تمكن الأديب من رسم صور شهداء المخيَّم في مراحل مختلفة… فقد ذكر الشهيد، ونضالاته، وتحدث عن زغاريد أمه وقت استشهاده، وحزن المخيَّم على فقده، وصوّر تلك القيم والمبادىء التي صاغها هؤلاء الشهداء للأجيال، من خلال نضالاتهم وممارساتهم… نعم لقد جاء ذكر كثير من هؤلاء الشهداء، مثل: عبد الله الحصري، وداوود الزبيدي، وزياد الزرعيني، ومحمود طوالبة، وعمر النايف، وأبو إسلام السعدي، والشيخ يوسف شريم، ونور جرار… وغيرهم وغيرهم كثير… فكانوا أزاهير فاحت رائحتها الزكية في بستان… هو المخيَّم… وهنا تبدّت الشخصية البطولية في السرد، وهي شخصية واقعية، وتأتت أسطرتها من ممارساتها النضالية، واستعدادها للتضحية، وبذل الروح في سبيل ثرى فلسطين الماجد.
السؤال: ما طبيعة هذه الألفاظ التي وظفها الأديب، كيّ تتحدث عن حياة الرجل الفلسطيني، ومعاناة الفلسطينية، ونضالات الشهيد، وصورة دمه النازف لحظة استشهاده… نعم تآلفت الجمل وحملت هذه المعاني الإنسانية كلها… إنها لغة رائقة شائقة، حملت المعاني المرادة في رحمها، وصاغت النصوص التي سجلت ووثّقت حالة النضال الفلسطينية… صاغتها بلغة سهلة يفهمها القاصي والداني، تقرب من لغة الناس في حاراتهم وأحيائهم، فرسمت صور الكدح والقهر… خصوصاً عندما اقتربت من حالتها الصوفية، باعتمادها على تجربة آل البيت الكربلائية، كما في زينب ص 118 ” إنها زينب، وما أدراك ما زينب؟لوحة الحق الباقي، وحنين الغدير والسواقي، الشفق الأحمر الممتد من الزمان إلى الزمان، لحن كربلاء، ومخزون الحب في كل الأكوان”، وبدت هذه الرؤية الفكرية في الكتابة في نص سيدتي فاطمة سلام عليك ص45 ” أيتها البتول بعطائها، الزينبية بمصيبتها وصبرها،لقد اصطفاك الله لتكوني شاهدة اللوحة…” وفي نص في عينها حزن كربلائي ص60 ” قالت: ماذا تريد؟ قلت: وأنا أبصر بحراً من الحزن الكربلائي، من أغرق هذه العيون ببحر الأحزان؟…” وقد تتعمق الرؤية وتنتقل إلى حالات العارف الصوفي، التي تتخطى معانيها البصر إلى البصيرة، وتتجاوز الجسد الترابي إلى الروح السامية ” أكتب عن الروح الشفافة التي تسمو إلى قمة الوجدان… أكتب للروح المجندة بأمر ربها… فالروح نور لا يراها أعمى البصيرة” ص73، نعم تتشكل الألفاظ وتتنوع لتتساوق مع المعاني المختلفة، بالمجمل فإن لغة النصوص جميلة رغم ما يعتري بعض العبارات من هنات إملائية ونحوية، كان من السهل أن يتخلص منها الأديب، ويقتلع الأشواك الشاذة بين أزهاره المتفتحة.
ومن الظواهر اللافتة في النصوص ظهور السجع في كثير من عباراتها، ” كل واحد منكم فجّر قصّة، وملىء الكون غصّة، في ذكركم وتوسّعت كأنها مليون حصّة” ص52 ، ومنها ” نحن سنامة الدين، روح الإيمان واليقين، صولات محمد الأمين، قدر أعداء الله الغاصبين، حمى المخيَّم، والذود عن حياضه المتين” ص179، ولعلَّ بروز السجع في النصوص أتى ليحقق الدهشة عند المتلقي، ويكسر قالب السرد النثري الروتيني، إضافة لنقل المتلقي إلى حالة طربية فيها من اللحن والموسيقا ما فيها، لغاية وجدانية… ولتعزيز الفهم والاستمتاع بالتلقي… في المقابل قد تكون صور السجع متكلفة، ولا تحقق غاياتها، وتقرب صورة النص من جنس المقامات ” العين مبتدأ السلام، والابتسامة مفتاح الكلام، والوردة وصل الوئام، واللهفة نغم مرفوع، والغدر من الصرف ممنوع، وسمو المكانة في القلوب تابع متبوع، والإخلاص بدل، وحروف التأفف من العلل، والفراق المر مكسور، والأمل في الحياة السعيدة جار وليس مجرور… ” ص11… لاحظ خلو العبارات من المعاني، وكأن وظيفتها كانت في الحفاظ على القافية، تأمل: تابع متبوع، الإخلاص بدل… الغدر من الصرف ممنوع… وتأمل خبر ليس (مجرور) الذي سُكّن مراعاة للقافية وكان حقه النصب…
نوّع الكاتب في استخدامه للضمير، فكان ضمير الغائب “هو” ليوسع آفاق القص في النص، ويعطيه المجال في التوسع والتمدد “بعد الفجر، أيقظه ” كوع” تلاحقت الصور في وعيه…” ص81 ” تذكر طفلتيه، وكأنهما يقولان له…” ص74
وعندما يريد التحدث عن الذات بصفة العالم كلي المعرفة بحالها فإنه يتوكأ على ضمير المتكلم ” الأنا” ويسرد كأنه في سيرة ذاتية” هناك مساحة من الفراغ تقض مضجعي، تمنعني من النوم…” ص35، وقد ينوّع الضمير ويوظف أنت/ أنتِ ” عندما كنت طفلاً، كنت تنتظر الشمس، تحاكي العشق في ذاتك…” ص34 وكأنه في حوار فني مبطّن مع الآخر، في لحظات كشف الشخصية والتعمق في ماهيتها…
وفي ميدان الكشف عن الشخصية والتعمق في ماهيتها، يتكىء الكاتب على الحوار، وعلاوة على الكشف فإنه يوظفه ليكسر به رتابة الشكل النثري التقليدي، كما أنه يبين مجريات الحدث، ويعمق مساره ونتائجه في وعي المتلقي، مما يثير شغفه لمتابعة القراءة، ولتوضيح ما ذكر إليك هذا الحوار بين السارد، وشخصية أنثوية حول رؤية فكرية فلسفية، تحلق في عالم المعاني والروحانيات ” قلت لها: هل مرّوا بأمان؟
قالت: أخائف أنت عليهم؟ قلت: وكيف لا أخاف وهم إحساسي ونظري، ونور قلبي، وسهر أجفاني. قالت: أهو العشق إذن؟ قلت: هذا جهلكم، وكأن العشق المجنون يكون بين القلوب فقط، وهذا ليس صحيحاً. فقد يعشق الإنسان العلاقة بين التراب والهواء، بين السحاب والماء… أنتم تعرفون الجمال صورة، أما أنا فأرى في الجمال لوحات منها تدركها الأبصار، وأخرى تدركها البصيرة” ص76
من خلال جزئية الحوار هذه نلحظ رؤيتين مختلفتين للجمال، واحدة عبرت عنها هي، وارتبط مفهومها للجمال بالجسد المادي الذي يدركه البصر، والأخرى تعمّقت في معاني الأرواح، بحيث لا تدركها إلا البصيرة.
وقد ظهر كثير من هذه الحوارات بين السارد، و”هي” الشخصية الأنثوية، كما في ” قالت تكلم” ص172، و”قالت وقلت”ص152، و”الاستقلال” ص118، و”قناديل زينب” ص102 وغيرها وغيرها، ولعل في ذلك تعزيز للدور الحيوي الذي تلعبه المرأة الفلسطينية، التي تشارك الرجل في معاناته وتضحياته، وقد تميزت هذه الحوارات بالسرعة، والقصر في جملها، لكنها بالتالي أدت مهمتها في التصريح برسالتها.
تولد التناصّ بمختلف أشكاله من التلاقح الفكري والثقافي للأديب، فالتناصّ دلالة واضحة على مساحة اتساع أفق الأديب، وحجم ثقافته، ومدى فهمه للأشياء، وقد ظهر التناصّ الديني: ليسد الفراغ في معاني الكاتب، ويعمّق الدلالات التي تتضمن الرسالة، ومن هذا التناصّ: عنوان المنجز “جنين مريمنا البتول”… حيث تعلق المعنى بالطهر والقدسية والنقاء.
ومن الديني أيضاً ” تلكم المدينة التي انتبذت لنفسها… مكاناً شرقياً” ” كذلك قال ربك هو علي هيّن… هزّي إليك بجذع المجد، يتساقط عليك أنوار بهيّة” ص8، وهذه اقتباسات من ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام، وحالة أمه مريم النفسية عند الولادة.
ومنه أيضا” قالت بانبهار: أو حاصل هذا سيدي؟ قلت: أو لم تؤمني بما سمعت؟ قالت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي” ص62 وهذا واضح أنه مأخوذ من حوار الله جل وعلا مع سيدنا إبراهيم عليه السلام.
ومن التناصّ الأدبي ” جنين،يا مريمنا البتول، قد جاوزت قدري بتوصيفك يا طهر الزمان والمكان… ص9 وهذا يتناصّ مع قول الشاعر أحمد شوقي في مدحه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في قصيدة “سلوا قلبي”:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري ………… بمدحك بيد أن لي انتسابا
ومن الأدبي تناص عنوان النص “تلك المرأة الحمراء ” ص128 من عنوان قصة قصيرة للروائي يحيى يخلف بعنوان ” تلك المرأة الوردة”.
وقد يستعير الأديب بعض أدوات مادية أو غيرية، وينسبها إلى البطل، وذلك تقديراً لبطولته، واعتزازاً به، وإعجاباً بقوته” نحن سيف علي، وصفحات في كتاب الله الجليّ، وروايات في سنة المصطفى، وهديه القويّ، نحن عصا موسى، وسفينة نوح، وصبر إسماعيل، ولسان عيسى، وطهر مريم، وبشرى زكريا، نحن قدر الله”.
وبعد؛فإنه كتاب ثري النصوص، زاخر المعاني، منوّع الأفكار، ويدور كله حول محور واحد فلسطين، فلسطين الشهادة والشهداء، فلسطين التضحية والفداء، فلسطين النور والعطاء…
أهنيء الأديب عصري فياض لإصداره هذا المنجز، الذي يستحق القراءة… والتأمل والدرس…