إعداد: فادي محمد الدحدوح*
يصعب كثيراً أن نجد كلمات تعبر عن رسائل منبعثة من قلب ملائكي، لقد أدهشتني مريم الطفلة الفلسطينية بغزة، الطامحة للمجد من وسط جحيم العدوان، قابلتها في خيمة تعليمية بمركز نزوح بمدينة غزة قالت لي: “أحلم أن أصبح معلمة أطفال، حتى أساعد أطفال بلدي، معلمة الأطفال طيبة القلب وحنونة، سأذاكر حتى أصبح معلمة ماهرةً وناجحةً”، الطفلة مريم تتواجد في مركز نزوح غرب مدينة غزة، حيث يتواجد فيه الكثير من العائلات النازحة التي فقدت كل ما تملك بفعل العدوان الكارثي على غزة، ويتواحد بداخل مراكز النزوح الأطفال مع أسرهم ويواجهون تحديات عظيمة كالحرمان من أهم الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الطفل كالحق في المأوى الآمن، والطعام الجيد، والتعليم والصحة.
إن المتتبع لما يجري من جراحات عميقة لواقع الطفولة في غزة، لا يحتاج إلى كثير من العناء لاكتشاف حقيقة قتل أمل الأمة ومستقبلها، لذا لم تبخل الحرب المدمرة على غزة من تعريض الأطفال لنيران أسلحتها إما قتلاً، أو تعريضهم للإصابة بالإعاقات والعاهات المستديمة، والسعي لتدمير بنية الطفل النفسية والبدنية والعقلية المعرفية والاجتماعية.
لقد أصبحت صورة الحياة للمشهد عامة وللطفولة بشكل خاص تلقي بظلالها على المجتمع الفلسطيني بغزة بجميع فئاته وتُحدث آثاراً سلبية كبيرة في البناء الشخصي لكل فرد من أفراده، ويحظى الأطفال بقدر أكبر من هذه الآثار نظراً لتدني إمكانياتهم وقدراتهم إذا ما قيست بإمكانيات الكبار وقدراتهم، فيما يتعلق باستيعاب آثار الحرب واحتمال ظروفها والتكيف مع مشكلاتها من منطلق ضرورة التوافق الشخصي مع المحيط كشرط لا بد منه للبقاء والاستمرار.
لقد تأثرت الطفولة الفلسطينية في جميع جوانبها وأحوالها بحالة كارثية لتنعكس على ملامح شخصية الطفل الغزي وسيكيولوجيته، لقد شكلت ظروف العدوان تأثيراً مباشراً على معدلات النمو في جوانب شخصية الطفل، مما يجعلها غير مرتفعة وتعاني من ضعف وتراجع، وعلى نحو يهيئ لحالات تأخر في الذكاء والنشاط الذهني، تأخر في التعليم والتحصيل، تدني في المواهب الشخصية وغياب مظاهر الإبداع والتميز، ووقوع في الاضطرابات النفسية والمشكلات السلوكية. كما إن انحراف عمليات إشباع الحاجات الإنسانية للطفل عن مساراتها ومعدلاتها الطبيعية يؤدي إلى ضعف في بنية الشخصية وتكوينها وتراجع في نمائها ونضجها يفقدها القدرة على تحقيق التوافق المطلوب ويزيد من فرص وقوعها في الاضطرابات والمشكلات المختلفة.
فقدان الطفل الغزي لمسكنه وما تبعه من حالات النزوح المتكرر، فقده عزيزاً كأبيه أو أمه، أو أخيه أو رفيقه نتيجة ظروف الحرب المدمرة، كل ذلك وغيره من تأثيرات ومظاهر العدوان يعمق لدى الطفل شعوره بالأسى والحسرة الذي يمكن أن يتطور إلى ما يسمى في الطب النفسي بـ”اكتئاب الفقدان”، وتتعاظم في نفسه مشاعر الاغتراب النفسي والاجتماعي والوطني، وما يمكن أن يترتب على ذلك من هبوط الروح المعنوية وانحسار النشاط الاجتماعي والميل إلى الإنطواء. كما إن افتقاد الطفل لحقه في اللعب الذي يهدف إلى تحقيق المتعة والشعور بالبهجة ومحاولة اكتشاف العالم والتعرف على ظواهره المختلفة واكتساب المعرفة والمعلومات وتنمية المهارات السلوكية والاجتماعية وتطوير الذات ينعكس بشكل سلبي على مشاهد الطفولة في غزة؛ حيث يشكل اللعب حاجة أساسية من حاجات الطفل، لا تقل أهمية عن الحاجات الأخرى.
رسالة الطفلة مريم ومشاهد الطفولة التي نراها في كل يوم من أيام العدوان عبر رسوماتهم تكون أبلغ وصفاً وأدق شرحاً من الكلمات، لنرى بعين واضحة رسومات لا تحاكي حالة الطفولة الطبيعية، فلا نكاد نرى صورة السماء الصافية والشمس المشرقة والأرض الخضراء والبيت الجميل والنهر يحيط به، كما هم معتادين على ذلك قبل العدوان، لقد أصبحت رسوماتهم تبرز حالة الفقدان والحزن والدموع ويعتنقها الظلام ورسم الطائرات، والأبنية المهدمة، وأماكن النزوح القاسية، ومظاهر الجوع والحرمان.
إن مشاهد ورسائل الطفولة تعد الحلقة الأشد ضعفاً، والفئة الأكثر تأثراً بمجريات الأحداث في غزة وانعكاساتها، مقارنة بالفئات الأخرى، حيث تؤكد التقارير الدولية كافة أن الأطفال بغزة تعرضوا لأبشع الانتهاكات وفقاً للقانون الدولي الإنساني، وقانون محكمة الجنايات الدولية، واتفاقية حقوق الطفل، وما بين كل مشاهد الاغتراب والنزوح والمرض والإعاقة والفقدان، يترنح مصير أطفال غزة في ظل غياب نصرة حقيقية واستراتيجية واضحة أو مشروع حل يأخذ بعين الاعتبار أجيال المستقبل وثروته القادمة.
*خبير في البحث العلمي والدراسات