د. صلاح معاطي
تلقفته السواعد القوية وهو يتأرجح من الحبل المتدلي من الونش الرابض فوق سفينة الشحن العملاقة، محاط بإطار حديدي سميك. لصقت عليه عبارات تحذيرية من الفتح بطريقة غير سليمة وضرورة التخزين في أماكن جيدة التهوية، ثم بيانات عن الطول والعرض والارتفاع وبلد المنشأ.
– إنزل كمان. خذ عليك يا أسطى شعبان. هات علي بقة. بشويش.
كان الجنود يقفون فوق سيارة نقل حكومية ابتلعت الصندوق داخلها وأغلقوا بابها الخلفي ثم انطلقت بما تحمله. بينما سأل سائق العربة الشاويش حسنين الذي يجلس بجواره بسذاجة ماكرة:
– الصندوق ده فيه إيه يا عم حسنين؟
رد حسنين وهو يلف سيجارة ويلصقها بلعابه دون أن ينظر إليه:
– مهمات.
– يا سلام يا حضرة الباتشويش لو تعطوني الصندوق لينام عليه الأولاد بدل نومتهم على الأرض.
كان الصول حماد أمين المخزن واقفا بقامته المحنية قليلا عاقدا يديه خلف ظهره وقد استبد به القلق فراح يمشي أمام المخزن جيئة وذهابا. حان موعد انصرافه منذ عشر دقائق ويريد أن يغلق المخزن لكنه لا يستطيع قبل أن يصل الصندوق ويدخل المخزن ويطمئن عليه ويقيد محتوياته في دفتر الأحوال.
يشعر بتنميل في ساقيه فيسحب كرسيا أعرج من داخل المخزن يجلس عليه لحين مجيء حسنين بالصندوق.
ثمانية وثلاثون عاما قضاها في خدمة الحكومة كان مثالا للشرف والنزاهة والانضباط. لم يبق له حتى يبلغ سن المعاش سوى شهر واحد. يريد أن يكون ختامها مسكا.
يفيق من إغفاءته على صوت الشاويش حسنين وهو ينزل من السيارة العسكرية التي وقفت أمام المخزن:
– إنت نمت يا حضرة الصول؟
ينتفض حماد وهو يصيح بحدة:
– اتأخرت ليه يا حسنين. كان زماني في البيت.
يجيبه حسنين بينما كان الجنود يقومون بحمل الصندوق داخل المخزن:
– عبال ما شحنا الصندوق وخلصنا الأوراق وختمناها في الميناء.
يدخل حماد معهم المخزن بصحبة حسنين، الذي يبادره قائلا:
– هو الصندوق ده فيه إيه يا صول حماد؟
يجيبه حماد:
– مهمات.
يصيح حسنين متعجبا:
– كل الهلمة التي على الصندوق أختام وأوراق وتحذيرات وتقول مهمات.
ينهره حماد:
– وإحنا مالنا. علينا نشحن الصندوق في المخزن ونقيد محتوياته ودمتم.
ثم يفتح دفتر الأحوال الضخم قائلا:
– افتحوا الصندوق وطلعوا ما فيه.
– ما تخليها لبكرة يا حضرة الصول الصباح رباح.
– ما ينفعش يا حسنين أي شيء يدخل المخزن لابد أن يقيد في دفتر الأحوال.
يميل حسنين على أذن حماد محدثا إياه بصوت خفيض:
– أمانة عليك يا صول حماد تعطيني الصندوق بعدما نفرغ ما فيه، أحط فيه هدوم الشتاء التي بهدلتها الرطوبة وأكلتها العتة.
يرد حماد بلهجة حاسمة:
– هذا صندوق عهدة يا حسنين. لو خرج من المخزن فيها سين و جيم. مليني.
يغمغم حسنين في تبرم، ثم يمد يده داخل الصندوق مخرجا بعض القطع:
– اكتب يا سيدي عدد واحد قطعة بشبوري.
بالرغم مما كان يعانيه حماد من تململ ووخم ورغبة في الذهاب إلى المنزل ليقيل بعد الغداء، فقد أطاح العمل بنعاسه وراح يتحرك في المخزن بنشاط ويصيح محدثا حسنين:
– قل لي يا حسنين بشبوري عادي أم قلاووظ.
يرد حسنين بضجر:
– عادي يا صول حماد. عادي.
لم ينته الصول حماد ومساعدوه من إفراغ صندوق العهدة من محتوياته وقيدها في دفتر الأحوال قبل المغرب. وراح حسنين يدق بأصابعه على الصندوق:
– قوي ومتين. يا بخت اللي حتكون من نصيبه.
لم يرد عليه حماد. راح يخرجهم واحدا واحدا من المخزن ثم أغلق بابه الحديدي بإحكام ووضع قفلا ضخما عليه وركب العربة التي انطلقت به في طريقه إلى البيت. وهو في الطريق راح شعبان السائق يحدثه في أمر أبنائه الذين أصابهم المرض من نومتهم على الأرض ويأمل في إعطائه صندوق العهدة ليكون سريرا ينامون عليه، فتظاهر حماد بالنوم وهو يطلق شخيرا مصطنعا. فأسقط في يد شعبان وسكت.
ما أن نزل حماد من السيارة أمام بيته حتى فوجئ بغزال الكهربائي يهرع نحوه وهو يصيح:
– عدم المؤاخذة أنا كنت معدي بالصدفة من أمام الميناء ورأيتهم وهم ينزلون صندوقا على عربتكم. وحياة أغلى ما عندك يا صول حماد تعطيني الصندوق أرص عليه البضاعة بدلا ما هي منهوبة في الحارة.
هز حماد رأسه لكي يصرفه وهو يقول له:
– إن شاء الله.
فتحت له زوجته الباب ثم شهقت:
– إيه اللي أخرك يا حماد؟
– كان فيه عهدة بتنزل المخزن.
أسرعت نحوه وهو يخلع ملابسه وصاحت:
– صندوق العهدة يا حماد إياك تتصرف فيه. سأضع فيه جهاز البنت.
أومأ:
– حضري لي الغداء.
يجلس حماد أمام المائدة يتناول غداءه وقد شعر بثقل في رأسه لتأخر موعد الغداء وحرمانه من قيلولته. توقفت يده وهي تحمل اللقمة إلى فمه وراح يتساءل:
– يا ترى أنا قيدت في الدفتر البشبوري عادي أم قلاووظ.
خفق قلبه وسقط بين قدميه فالفرق كبير بين الاثنين. هب واقفا، عاد يرتدي ملابسه من جديد. شهقت زوجته:
– على فين يا حماد؟
– على المخزن.
ابتسمت وهي تقول:
– ما تنساش صندوق العهدة.
لم يرد وأسرع خارجا من البيت. ما أن رآه غزال الكهربائي حتى صاح في عشم:
– وحياة الغاليين ما تنسى الصندوق يا حضرة الصول.
انطلق كأنه لا يسمعه. عندما وصل إلى المخزن شاهد شعبان السائق ينطلق بسيارته ثم توقف ليقول:
– الصندوق يا حضرة الصول علشان الأولاد.
راح يفتح الباب بانفعال وكأن لجنة الجرد ستعقد في التو واللحظة.
بينما كان الشاويش حسنين يمر من أمام المخزن ممسكا بكوب الشاي لمح المخزن مضاء فتوقع أن يكون الصول حماد قد عاد لأمر ما. فقد اعتادوا منه ذلك يأتي في أي وقت فيجرد المخزن كله أو يعيد تنظيم محتوياته. وجدها حسنين فرصة أن يقدم له كوب الشاي ويطلب منه صندوق العهدة بصنعة لطافة. طرق حسنين الباب كان مواربا دفعه برفق وهو ينادي:
– صول حماد.
لم يأته رد. تقدم حسنين ليجد حماد جالسا أمام المكتب والقلم في يده وقد سقطت رأسه على دفتر الأحوال. هزه وهو ينادي:
– صول حماد. صول حماد.
لم يحرك حماد ساكنا. صرخ حسنين:
– لا حول ولا قوة إلا بالله. الصول حماد مات.
بعد قليل جاءت العربة معطية ظهرها إلى باب المخزن بينما كان الجنود يضعون جسد حماد في صندوق العهدة لينقلوه إلى بيته ثم حملوه داخل السيارة وهم يرددون:
– إرفع كمان. خذ عليك يا أسطى شعبان. هات علي بقة. بشويش.
جلس حسنين يبكي بجوار شعبان والسيارة تتحرك نحو بيت الصول حماد. فأوقف أحد رجال الأمن السيارة وهو يسأل حسنين:
– الصندوق ده فيه إيه يا شاويش حسنين؟
مسح حسنين دموعه وأجاب بصوت مختنق وبحروف متقطعة:
– مهمـ.. مات