المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

عبد الكريم الشيخ سلمان شاعر الصورة والجمال

*د. محمد ياسين صبيح

لقد كان الشعر سابقاً ديوان العرب، بينما يزاحمه الآن بقوة الكثير من الأجناس الأدبية وفي مقدمتها الرواية، بعمقها ووساعتها وجمالياتها، لكن يبقى الشعر العنوان الظاهر للجمال والتألق، فهو يلامس الروح كنسمة رطبة تنعش الزمان والمكان، ولكن يبدو أن استسهال الكتابة فيه أدى إلى انحدار الشعر في الكثير من الحالات نظراً لعدم تجديد الشعراء لأسلوبهم وأفكارهم والأهم لصورهم الشعرية، ولذلك يحتاج الشعر إلى موهبة ومخيال واسع وأسلوب صياغة فيه الكثير من التجديد والفرادة، وهذا ما نراه في ديوان الشاعر الدكتور عبد الكريم الشيخ سلمان، بحيث يعتمد على التجديد في الرؤية الشعرية.

وقبل أن ندخل إلى ديوان الشاعر سنتحدث قليلاً عن الشعر وشجونه:

تاريخية الركود الشعري:

نعرف أن الشعر عانى حتى القرن التاسع عشر حيث كانت الدول العربية بشكل عام تعيش حالة تخلف كبيرة، وحالة من الترهل الاقتصادي والاجتماعي وبالطبع الأدبي، نتيجة وجود العثمانيين ونتيجة حروبهم الكبيرة على مختلف الجبهات، كما أن الحالة الاقتصادية للناس كانت سيئة، وفي هذه البيئة من الواقع المرير، والابتعاد عن الحالة الثقافية والأدبية التي تواكب القيم الثقافية والفكرية، لم نلحظ أي حراك شعري كبير يمكننا اعتباره تطوراً أدبياً، حقق اختراقات في الأسلوب أو الفكر، حيث اهتم الشعر بمواضيع مثل (المدح والرثاء والوصف والشكوى والعتاب، والتقريظ والتأريخ الشعري والبديعيات والتهنئة والمناظرات) وغيرها من المواضيع التقليدية البحتة، وفي هذا الجو من النظم التقليدي للشعر الموزون الذي وصل إلى مرحلة من الترهل وعدم التجديد، دفعت الكثيرين للبحث عن بدائل كثيرة.

بدأت مرحلة التغير بشكل عام في بداية القرن العشرين وبعد الانفتاح العربي على العلوم والثقافات الغربية ونشوء المدارس والجامعات في مصر وسوريا والعراق ولبنان، الأثر الكبير في إعادة إنعاش الشعر العربي، فظهر الكثير منهم أمثال أحمد شوقي وإبراهيم ناجي وحافظ ابراهيم ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ومهدي الجواهري ومن ثم نازك الملائكة والسياب والبياتي، ومحمود سامي البارودي وبدوي الجبل وأبو القاسم الشابي وعمر أبو ريشة وغيرهم الكثير، ومن ثم بدأ الكثير من الشعراء بإيجاد طريقة حداثية من خلال التغيير في قيمة الصورة الشعرية ونقلها إلى حالة المشهدية التي تغرف من التأملات والفكر والفلسفة والموقف.

يعض مؤشرات الشعر الجمالية

لا يكفي أن يكون الشعر موزوناً ليحقق شعريته وجمالياته، بل يجب أن يسعى دائماً نحو التجديد والاختلاف مع نفسه ومع غيره، فمن الممكن أن يقوم أي شاعر بمعارضة أي شاعر أخر ويملأ الصفحات من الشعر، فما الذي يجب أن يختلف هنا إذاً، كما سنرى يمكن ان نحدد بعض القضايا الشعرية المهمة:

من أهم العناصر أو المؤشرات على جدية وتجديد الشعر هو إيجاد صور شعرية مختلفة وابتكارية، تخص الشاعر وتمثل أسلوبه المغاير، والذي لا يشبه غيره.

ابتكارية أسلوبه في دمج الفكرة مع الصورة مع مخياله الثري، وليس القراءة المباشرة للفكرة كأسلوب إلقائي جاف.

تجريد الشعر من الوصف الكلي، بمعنى أن يعتمد على وصف شيء محدد فقط مع إعطاء النص الشعري قيمة فكرية مرافقة تجدد القيمة المعرفية له.

عدم الانحراف نحو الاسهاب في السرديات المطولة، لأن ذلك قد يحرف الشعر إلى المفهوم السردي ويبعده عن جمالياته المعروفة والمتوقعة.

ديناميكة الجملة والقيمة الجمالية في /من كوة المعنى/

فالشعر قيمة جمالية وفكرية وأدبية، وهذا ما وجدناه في ديوان الشاعر الدكتور عبد الكريم الشيخ سلمان، فلقد كان عنوانه الأهم التميز في سلاسة الجملة وقوة العبارة، وعمق الدلالة وشفافية المعنى ورمزيته العالية في بعض الأحيان، فهو يجيد الخلط بين هذه المعايير الجمالية للشعر دون أن تبقى بحيرة الجمال والمعنى والقيمة الفنية ساكنة، بل تنمو فيها أمواج السمو الروحي والتعدد الأسلوبي والفني.

فقوة الوصف والصورة واضحة في قصيدة ليلة الميلاد كما يقول ص5:

في ذكرى مولد الرسول الأعظم (ص 5).

في ليلةِ الميلادِ شمعُكَ ذائبُ لتُضاءَ في حَلَكِ الوجودِ كواكبُ

أنت الذي صلى فأومأتِ الدُنا خجلي وما بَلَغَت عُلاكَ مراتبُ

أثقلتَ أهلَ الأرضِ رفد هدايةٍ فبكل أرضٍ من يديكَ سحائبُ 

ويقول أيضاً:

فذوي النُّهى من فيضِ ضوئكَ تستقي وأخو الجهالةِ في الضلالةِ حاطبُ

فشمولية العمق للمعنى وللحالة القداسة، تتجلى في شساعة الرؤية الشعرية لها، وسخر لذلك لغة محكمة، استخدم فيها ملفوظات متنوعة تخدم مقاصده الشعرية.

كما وجدنا أنه من أهم القيم الجمالية في الديوان تميزه بالديناميكية التفاعلية، التي تجمع بين الكثير من المفارقات والأضداد، فالشمع يذوب ويذوي، ليعطي الضوء والمعرفة للغير، هو هكذا ضمّن معنى الشمع هنا، عندما قال (لتُضاءَ في حَلَكِ الوجودِ كواكبُ)، فما يضاء هو المعرفة بالله والمعرفة بالإيمان والمعرفة بكل شيء، هنا نرى القوة الديناميكية للأبيات، وقدرتها على تحريك الساكن الظاهر، إلى معرفة شاملة تشمل الظاهر والباطن.

كذلك نرى القوة الديناميكية في الأبيات التالية ص 54:

المبدعونَ على ما يفتنون همُ لا يصدأَ التبرُ إن أزرى بهِ القِدَمُ

ما يصنعُ الشِعرُ في أيامِ داجيةٍ يجثو على جانبيها الحزنُ والألمُ

وكلُّ داجيةٍ تبدو فتأخذنا ونحنُ نقتلُ قتلانا ونبتسمُ

يا للسذاجةِ من أمرٍ يكونُ به حبُّ السلامةِ مرهوناً به السقمُ

لنتمعن في قوة الصورة التي جمع فيها بين الأضداد كما في (نقتل قتلانا ونبتسم) (السلامة والسقم)، هذه الديناميكية تعطي قيمة مضافة للقصيدة، ترفعها إلى حالة من المفارقة والتأمل.

الكتابة في المقدس وصعوبة التفرد

نعرف أن الكتابة عن الشخصيات الدينية والروحية من أصعب صنوف الكتابة الشعرية، لأن الكثير قد كتب هنا، ولذلك يتوجب على الشاعر التفرد والاختلاف في كتابته على أن يجدد ولا يقلد، وهذا ما فعله الشاعر د. عبد الكريم في ديوانه، حيث بنى تكوينات قصائده على نهج شعري مختلف، دمج بين ديناميكة النظم والصورة وبين القوة الدلالية التي عمقها بأسلوب صوفي مميز، كما يقول في قصيدة /يا ملهم القلب/ إلى الامام الحسين عيه السلام ص 19:

وباعثاً في النفوسِ الحائراتِ بنا طلائعَ الأملِ المنشودِ للأرَبِ

حتى كأنَ بحورَ الشعرِ أجمَعَها إياكَ تأخذُ من فيضٍ ولم تَهَبِ 

وأنت أحجيةُ الدنيا ولجَّتُها ما كانَ غيرُكَ في دنيا الخلودِ حُبِي 

دارت مداراتُ هذا الكونِ قاطبةً وكنتَ أنتَ لهذا الكونِ كالقطبِ

وكم تداعى زمانٌ بعدَهُ حِقَبٌ وأنت وحدكَ تروي قِصةَ الحِقَبِ

وأخفقَ الفكرُ غواصاً بها حَرِداً فراود القاعَ أياباً من الطلبِ

من أجمل القصائد لما تتضمنه من قوة في السبك وفي رمزية المعنى، وفي الصورة التي شبكها جيداً مع الفكرة لتأخذ القيمة الشعرية المناسبة، 

تأملات في الحياة

يقول في قصيدته /حب القوافي/ ص 46:

إني أحبُّكَ حتى ينفذَ الرمقُ ليزدهي عاشقيكَ الشعرُ والورقُ

وجدتُ حبَكَ يضنيني ويؤنسني إذا تجددَ في إيذائيَ الأرقُ

فإن تأملتَ أشعاري وجدتَ بها مباهجَ الروحِ حتى يزدهي القلقُ

إني أحبكَ يا صحوي ويا سُحبي لكنني كلما أحببتُ أحترقُ

وغيره بالتأكيد، فرغم الأرق والألم لا يوجد سوى الحب، حب الايمان المتعمق في رؤية التوحد الانسان والخالق، وحب الانسان للإنسان.

خاتمة

لقد رسم الشاعر الدكتور عبد الكريم نهجاً شعرياً مميزاً، يميزه بالأسلوب والصياغة، والذي يعتمد على تميزه في الصورة الشعرية، وفي دمج تقنيات التفاعل الأدبي والشعري، وخاصة الديناميكية وبكل مؤشراتها ومكوناتها، والتي أراها تعطي باستمرار قوة تصاعدية للقصيدة وترفعها نحو التجدد، لذلك نستطيع اعتبار الديوان عملاً شعرياً فريداَ، يتمتع بتعدد المواضيع والثيمات، وبتعدد الأساليب التي لم يركن الكاتب فيه إلى رؤية اسلوبية واحدة، بل نوّع في طريقه سبكه للقصائد، ديوان يستحق القراءة ويستحق الاهتمام.

*كاتب وناقد/ سوري