ترجمة: سعيد بوخليط
بالتأكيد، تواجدت ثنائيات أسطورية أخرى مثل سارتر/بوفوار أو إلزا تريولي/ لويس أراغون. لكن، هذه النماذج المثالية لاينبغي أن تنسينا، نموذج من يواصلون غاية اليوم مشروعا على مستوى علم الاجتماع، الفلسفة، الأدب الفن أو نضاليا.
هكذا، نسجت المحلِّلة النفسانية صحبة الكاتب منذ خمسين سنة علاقة عاطفية و شراكة استندت على استقلال صارم، روى معا تفاصيلها عبر صفحات كتابهما المشترك: ”الزواج باعتباره أحد الفنون الجميلة”، الصادر خلال فصل الربيع.
قبل خمسين سنة، باشر فيليب سوليرز و جوليا كريستيفا سجالا لم يتوقَّف قط. سوليرز كاتب، كريستيفا مختصَّة في التحليل النفسي ومدافعة عن قضايا النسوية، ويمتعض الاثنان من كلمة ”ثنائي”. رفقتهما بمثابة: ”تكيُّف دائم، عاشق، شفَّاف، تغذيه حريتان مشتركتان وفريدتان”، مثلما كتبا في عملهما المشترك ”الزواج باعتباره أحد الفنون الجميلة ”، الصادر عن منشورات فايار. ختفي المقابل، يحاولان يوميا تحريض ”شخصيتهما المبدعة”، دون التخلي عن ذلك.
س- ماذا عن لقاؤكما الأول؟
جوليا كريستيفا :أتيت من بلغاريا إلى فرنسا عشية أعياد الميلاد سنة 1965 . لم أكن أعرف فيليب سوليرز.رأيت صورته أوَّل مرة بداية 1966، على صفحة المجلة الشيوعية”كلارتي”، يناقش فكرة تغيير المجتمع من خلال تغيير اللغة.بدت لي أطروحاته مألوفة :فقد طوَّرها آنذاك الشكلانيون الروس،ثم السورياليون.كنت أتابع محاضرة لرولان بارت،تقاسمت معه حيثيات الموضوع،فاقترح عليَّ الذهاب لملاقاة سوليرز.الأخير،وافق بكل وُدٍّ.تصورته نموذج كاتب،مثلما التقيتُ سابقا آخرين على شاكلة :فأر مكتبات، أعجف،يتلعثم قليلا ويصعب إدراكه.غير أنِّي صادفتُ أمامي شخصا مختلفا صاحب حضور فيزيائي،جعلني أتصوُّره للوهلة لاعب كرة قدم !تحدَّثنا عن الأدب،ناقشته حينها بخصوص مفهوم الكرنفالية في الرواية،الذي بلوره المنظِّر الروسي ميخائيل باختين سنوات العشرينات. أبدى اهتماما لما تبادلناه من أفكار،ثم اقترح الذهاب لتناول مشروب وتزامن اللقاء الفكري مع تواطؤ فيزيائي كبير.
س-بالنسبة إليكَ، فيليب سوليرز، كيف عشتَ تلك اللحظة ؟
فيليب سوليرز: تلك الفتاة الساحرة التي ولجت مكتبي الصغير لمجلة تيل كيل. كانت حقبة عالقة جدا، محاصَرة، بينما نعيش حاليا أكثر الحقب رجعية لم تعرف فرنسا مثيلا لها سابقا !انكباب مجلتنا الطليعية الصغيرة تيل كيل على تهيئ المضمار، وكذا الانفجار الذي سيتحقَّق بكيفية ما، حركة سبقت الثورة، ولم تكن فقط مجرَّد ”وقائع” عادية مثلما يدعي البعض. الأسماء المنضمَّة آنذاك إلى المجلة لم تترسَّخ بعد،كما الشأن مع رولان بارت،جاك لاكان، جاك ديريدا، ميشيل فوكو، جاك لاكان، إلخ. بخصوص لحظة مجيء جوليا كريستيفا، توقَّعتُ سلفا لقاء جامعية، بكل ماتضمره الجامعة القديمة خلال تلك الحقبة من غبار وتوتُّر، بالتالي ستواجهني بأسئلة منتظرة. بيد أنَّ طبيعة حضورها خالف تماما حدسي.
تحدَّثَتْ بلغة فرنسية رائعة، واستقيتُ منها أخبارا مهمَّة، تتعلَّق بما يجري في الخارج بحيث أحاطتني علما بوضعية الحركة الفنية ”المستقبلية الروسية” وتقويض وجودها من طرف الستالينية. فكيف استطاعت بلوغ كل تلك المعلومات؟
جوليا كريستيفا: أيضا ساعدت الأجواء الملتهبة خلال ثورة مايو 1968، على تيسير لقائنا. اقتضى الوضع عقد قراننا رسميا في حضرة رئيس البلدية، لأنَّ تاريخ تصريح إقامتي قد انتهى من ثمَّة عدم قانونية تواجدي داخل فرنسا.إضفاء الطابع الرسمي،لم نعشه سواء كانحراف ولا ثورة، بل بداهة، تضمَّنتها الحركة.
س-لماذا اعتبرتما لقاؤكما بمثابة اجتماع بين نمطين من الاغتراب؟
جوليا كريستيفا: فتاة قادمة من الشرق،بحمولة تربية شيوعية وأبوين مقاومين وأرثوذوكسيين، أكثر استئناسا بهيغل من ديكارت، تصادف نموذجا ثانيا ينحدر من بورجوازية مدينة بوردو مع أبوين يساريين من أتباع دوغول. لذلك، أظهرنا معا حساسية مفرطة بخصوص اغترابنا. كان سوليرز في الآن ذاته الأكثر فرنسية قياسا لباقي الكتَّاب وفي نفس الوقت مستاء جدا من فرنسا مهترئة بعد الحرب،متمرِّدا تقريبا، وطليعيا جدا. ومهما أمكن القول،فقد أضمر بالأحرى عدم ارتياح صوب المجتمع الصغير لحيِّ سان جيرمان.بدوري كنتُ، إلى حد ما في خضمِّ حالة انعدام الجاذبية داخل باريس، كما لو أفتقد القدرة سواء على البقاء أو الرحيل. لذلك، تهيَّأت الوقائع كي يحدث التوافق. حاولنا دائما مراعاة هذا الإحساس بالوحدة والتفرُّد. اشتغل كل واحد منا على مجالات أبحاثه وحافظنا دائما على اغترابنا، الذي اعتبرناه بمثابة حظٍّ وليس تراجيديا.
فيليب سوليرز :حين قدوم كريستيفا إلى فرنسا،شكَّلت موضوع ارتياب لدى اليمين المتطرف،بحيث وصفتها بعض المقالات بكونها جاسوسة،أو على الأقل تحرِّكها المخابرات السوفياتية.لقد تطلع الحزب الشيوعي كي نعيد ثانية قصة لويس أراغون-إلزا تريولي. أنتم أمام شخصين يتبادلان أطراف الحوار منذ عقود وبكيفية غير متوقَّعة.سجال انطلق منذ فترة طويلة وباستمرار،وعضَّده الشغف الجسدي، ثم صار ثريّا ومفيدا أكثر فأكثر،ويتواصل في إطار انكباب كل واحد منا على مشروعه.جوليا،تكتب كتبا ومحلِّلة نفسانية ولها مسيرة جامعية على المستوى الدولي،وكل واحد منا يتمتَّع باستقلال ماديٍّ كلِّي.
س-لماذا هذا الاستقلال ؟
فيليب سوليرز : يتيح إمكانية تجنُّب مختلف أنماط النفاق التي بوسعها التواري خلف تقديس الزواج، بحيث لم نلتجئ للمؤسسة سوى للحفاظ على حميمتنا وكذا حريتنا. لم يكن زواجا دينيا ولم نطلب الإذن من أيِّ شخص ولا استشارة العائلة.يكذب الأفراد بين طيات مختلف حكايات العلاقات الزوجية،مثلما يكذب المجتمع. بالتالي، تتوخى تجربتنا اختبار الزواج، اللازواج، التآلف، “الانفكاك،ثم التآلف مرة أخرى.الاستقلال المادي أساسيّ جدا،وإلا فالمجال دائما للكذب،ويفرز باستمرار ضحيَّة.وضع، تتعقَّب أخباره مجلات المشاهير وكذا الأفلام.
س-هل يقتضي عملكما الفكري نفس الاستقلال ؟
فيليب سوليرز :بالتأكيد،وإلا يغدو المشهد أشبه بشخص يقرأ فوق رأسكَ،فتنعدم حريتكَ. إذن،من الضروري توفير فضاءين للاشتغال.
جوليا كريستيفا : بوسعنا استحضار كل شرور الشيوعية،لكن تنبغي الإشارة رغم ذلك إلى ترعرعي منذ طفولتي المبكِّرة،على زخم فكرة ضرورة امتهان المرأة لحِرفة معينة. لقد وصلت إلى فرنسا وفي جيبي خمس دولارات فقط،إذن لم يكن بوسعي الانتظار غاية الحصول على المنحة الجامعية،لذلك أسرعت إلى العمل في المذياع بهدف تقديم برامج موجهة نحو بلدان شرق أوروبا. بدا لي السعي بديهيا.لكني تفاجأت عندما لاحظت بأنه داخل عائلات صديقاتي الفرنسيات،نادرا ماكانت تمارس النساء وظيفة.وضع تنافى مع تصوراتي عن فرنسا الأنوار. أيضا، يمدُّكَ الاستقلال الاقتصادي حينما تعيش علاقة غرامية،بأسباب الحماية من الغرق.
س- هل تشتغلان فكريا معا؟
جوليا كريستيقا :نتناقش باستمرار ويقرأ أحدنا للثاني،حتما ليس كل شيء بل حينما يكون العمل مهمّا.لاينتابنا قط الإحساس بالوحدة خلال مسارنا الفكري. الأشخاص الذين لايدركون كيفية القراءة أو تخزين المعلومات،لن يعرفوا أبدا سبيلا إلى الحب. يظهرون عجزا بخصوص تضمين قراءاتهم حكايتهم ومشاعرهم ،وكذا طريقة تفكيرهم.يمثِّل هذا التقابل أساس العلاقة الإنسانية. لذلك، نتوخى استحضار الثنائي، 7كي نتحدث علينا، بل رصد هذه العلاقة التي بوسعها الاستمرار بين رجل وامرأة.العلاقة الحقيقية مع الآخر،تتشكَّل زمنيا،لذلك يجسِّد الزمن شخصية الثنائي الحقيقية.
س- ماهي اللحظات الكبرى لسجالكما؟
فيليب سوليرز :خلال فترات اشتغالنا على مؤلفات. جوليا،من جهتها بفضل قدرتها الهائلة على العمل، بحيث تنجز أعمالا كثيرة خلال الوقت ذاته.
جوليا كريستيفا : مثل نساء كثيرات.
فيليب سوليرز : نتقاسم أوراش تحضيرنا لمشاريع كتب، نتبادل أفكارا كثيرة حول قراءاتنا.لكن خاصة الراهن يتيح لنا اهتماما وكذا إفراطا في ضحك لايتوقف.
جوليا كريستيفا :إذا استعصى علي النوم ليلا، أستمع إلى برامج ”فرانس أنفو”. نتجادل كثيرا حول الراهن، التحليل النفسي، وخاصة أمراض جديدة وكذا الديانات،ثم كيفية تسلُّل المقدَّس إلى حياتنا اليومية.نعاين هذه الأزمة على مستوى التديُّن الكلاسيكي (المسيحية واليهودية)،كثير من الشباب يلتهمهم إسلام معين.ترعرع فيليب ضمن أجواء كاثوليكية على منوال فرانسوا مورياك،وأنا بدوري تربَّيتُ في إطار مسيحية أرثوذوكسية معتدلة بفضل الداروينية، لذلك نمتلك معا حِسّا دينيا في حمضنا النووي.أيضا، يجعلنا الراهن نفكر ثانية في وقائعنا.
فيليب سوليرز : غالبا من أجل التفكُّه.
جوليا كريستيفا :هناك دائما جين تبكي وجين أخرى تضحك.أنا بالأحرى جين التي تبكي.بينما فيليب الذي يضحك يهاتفني غالبا،قصد السؤال عن حالي،أخبره بأنِّي لست على مايرام،يجيبني بأنِّه سيعيد الاتصال ثانية.بعد ذلك، يتحوَّل بكيفية سريعة صوب الراهن بتدبيجه مقالة لمنبر إعلامي.
فيليب سوليرز :أضحت طريقة تصرُّف رجال السياسة منذ عشرات السنوات كوميدية للغاية. مؤلم، استعراض حياتهم الشخصية. لكني، استمتعتُ بصورة فرانسوا هولاند ممتطيا الدراجة النارية.
س- ماذا عن التزامكما سياسيا؟
جوليا كريستيفا: بما أنَّنا لاننتمي لأيِّ حزب سياسي، تتَّسم حتما مساهماتنا بكونها فردية دون انتساب معين.
فيليب سوليرز : فيما وراء اغترابنا معا،يتأتى لنا كذلك الالتقاء ثانية عبر الطفولة. هي طفولة مجانية، لأنَّها متخيَّلة.
جوليا كريستيفا :الطفل باحث داخل المختبر.نمثِّل صورة منحرفيْ أشكال متعدِّدة، لايتعلق الأمر بانتهاك مهما كَلَّف،لكن عبر البحث عن قيم جديدة،بالتالي اقتحام الحياة الفژضولية !
فيليب سوليرز : كتب بودلير على نحو جيد، مايلي :’ ‘العبقرية،طفولة عُثِر عليها ثانية بإرادة”.أو أيضا :”جَنَّة خضراء بغراميات الطفولة، ركض، أناشيد، قُبُلات، باقات ورد”.
س-الطفولة كفردوس مُفْتَقَدٍ؟
جوليا كريستيفا وفيليب سوليرز :بل كفردوس ينبعث باستمرار.
*مرجع المقالة:
Catherine Calvet et Cécile Daumas :Libération.le 24 juillet 2015.