المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

فيليب سوليرز: خصوصية مدينة بوردو

 ترجمة: سعيد بوخليط

ولد فيليب سوليرز في مدينة بوردو. كتب روايته الأولى”عزلة غريبة”سنة 1958. ساهم في تشكيل معالم حلقة تيل كيل سنة 1960،ثم راكم بعد ذلك روايات ودراسات. أسَّس مجلة اللانهائي، وانتسب إلى هيئة القراءة التي تشرف على إصدارات غاليمار.

 

س-هل بوسع الشخص في مدينة بوردو أن يكون إباحيا ومتحرِّرا من كل القواعد؟

فيليب سوليرز: قياسا إلى نمط العيش السائد في وقتنا الحالي، فالشخص الإباحي بمعنى المتحرِّر أضحى نادر. حتما،إذا قصدنا بالمفهوم مضمونه الفلسفي. بوردو مدينة كبيرة خلال القرن الثامن عشر، أجمل مدينة فرنسية حسب ستاندال. المنطقة، مؤهَّلة إلى تحرُّر من هذا القبيل، نتيجة أسلوب حياتها وكذا معطيات تاريخها. خصوصيتها أساسا: بحيث لا يوجد متحرِّر دون خصوصية. والحالة كذلك، تتيح مدينة بوردو إمكانية السِرِّية لأنها فضاء امتلك تراثا عريقا جدا بخصوص الحرية. جسَّدت بوردو عاصمة كبرى للحرية، والبحث عن مرفأ خلال فترة الأنوار مقارنة مع نابولي وأيضا لندن. تقتضي الحرية الخصوصية. تناهض مدينة بوردو إلى أبعد حدٍّ كل تنظيم شمولي، إنها مدينة انجليزية. لذلك، يسهل أن تغدو إباحيا متحرِّرا في بوردو. عندما أتى إليها ستاندال عام 1828، سيؤكِّد دون مواربة: ”تكون ورِعا في ليون، ثم مقامرا في بوردو”. بالتالي، كونك متحرّرا، يعكس موهبة، وسمة فطرية(استياء من الارتياح)، هذا يرتكز على المراهنة. يمكن في هذا الإطار قراءة روايتي”سيرة مراهِنٍ”. الشخص المنتمي إلى بوردو خلال تلك الحقبة، لايفعل شيئا ذا أهمية، بل يذهب إلى ساحة البورصة حيث ترسو السفن. يلاحق فتيات شابَّات، غير مهتمٍّ بممارسة مهنة بعينها، فالتحرُّر الإباحي يستند على تبخيس العمل ومختلف القيم المجتمعية. يلزمه ببساطة أن يكون متفرِّدا، يمتلك جهازا عصبيا جيدا، وعيا زمنيا حادّا، وعلما بالزمن.

 

س-هل يوجد زمن مرتبط بمدينة بوردو؟

فيليب سوليرز: يتحدَّد الزمان إيقاعيا في مدينة بوردو من خلال المواسم المهمة جدا، التي تثقل بكل وزنها نتيجة الرياح. يتجلى الزمن حسيا، أعتقد بكيفية جلية للغاية. أولا، الزمن التاريخي. لقد أحبَّ سكان بوردو انجلترا، وامتعضوا من لويس الرابع عشر لأنه جسَّد مَلَكية مطلقة، وكذا الرعب اليعقوبي، مثلما رفضوا نابليون (يرسم سوليرز ابتسامة عريضة)،ولم يحبُّوا جان دارك. باختصار، لقد امتلكوا مختلف السمات، غاية أن صاروا مشبوهين في نظر الفرنسيين بناء على الإحالة المدرسية. بالتأكيد، نحن متمرِّدون. هل كنَّا تاريخيا في حاجة إلى فرنسا؟ حينما تنهار فرنسا، كيفما تجلى ذلك،يتِمُّ اللجوء إلى مدينة بوردو. لقد أتاها الجيرونديون هاربين. تعتبر مدينة بوردو وطني. الزمن الشخصي مميَّز جدا نتيجة النفوذ، وكذا الغطاء الذي وفَّرته الكروم. تنتقل بك الحياة داخل بوردو وجهة زمن ثان: “فكر حيويٌّ، زمن في غاية البطء”، هكذا تجلى الأمر في مدينة بوردو خلال القرن الثامن عشر، يعيش الجسد الإنساني مباشرة بكيفية شهوانية للغاية بمعنى أكثر بطئا. إذا كنتَ موهوبا من أجل ذلك،توفِّر مدينة بوردو هذه اللحظة. أعرف أفرادا ينحدرون من مدينة البندقية غير مدركين بتاتا أنهم يعيشون داخل الفردوس. تتعقَّب الكروم في مدينة بوردو هذا النضج البطيء جدا.نشرب زجاجات نبيذ 1983-1984، حسب تصنيف 1855 .هنا، تحتسي الزمان.

 

س-ماهو تأثير الكروم على حياة مدينة بوردو؟

فيليب سوليرز: عشتُ في بوردو غاية سنِّ الخامسة عشر،على بعد مائة وخمسين مترا من قصر أوبريون حيث تغطِّي الكروم وسط المدينة. نلاحظ مدى انتشار النبيذ حول منطقة بوردو، جنوبا حين القدوم من إسبانيا، بداية مع النبيذ الأبيض، خمر بطعم الفاكهة يُرتشف باردا جدا، بل مثلَّجا مع محارات كمقدِّمة لتناول الوجبات بشكل عام. أيضا، يُترك حسب درجة مناسبة غاية نهاية الوجبة ثم يُتناول ثانية مع الكعك، لذيذ. ونحن نمضي، نجد نبيذ منطقة ”غراف” وسط المدينة، ثم نبيذ سانت-إميليون حين الذهاب يمينا، أو النبيذ الأحمر عند التحوُّل يسارا وجهة ميدوك. عموما، أشارت التصنيفات إلى مختلف. أتأملُّ عناوين تلك الزجاجات في منزلي، مشهد جميل. إذا انعدمت الكلمات، توارت الأحاسيس: وجبة الأكل في مدينة بوردو، وفق الشكل التالي: نبيذ أبيض مثلَّج، محارات، ثم النقانق أحيانا. المُمَلَّح بجانب الحلو. أُخْبِرْتُ عن وجود النبيذ في مكان آخر غير منطقة بوردو، لكني رفضت التصديق.

 

س-هل يوجد نبيذ أنثوي؟

فيليب سوليرز: لاأومن بذلك. نبيذ ذكوري مع سمات أنثوية، لكن ليس نبيذا أنثويا. فالنبيذ ذكوري. قبل دخول دون جوان جهنم، أنشد مايلي: “نبيذ، وامرأة، دعم للإنسانية وتمجيد لها”. النبيذ ذكوري للغاية، معطى لايمنعه امتلاك سمات أنثوية. يمكننا القول، بأنه ينطوي تقريبا على حمض التانيك، بحيث يتطابق مع تفاصيل دقيقة للرجولة. هناك رجل بصفات أنثوية وامرأة بخاصيات ذكورية، مما يجعلنا عند موقع بين الرجل والمرأة، بمعنى أربع شخصيات. النبيذ إله، أقصد ديونيسيوس. لم أصادف امرأة تقوم بمهمة الإشراف على إنتاج النبيذ . ربما، يحدث ذلك.

 

س- ماذا عن نساء بوردو؟

فيليب سوليرز: يتغير الإيقاع، في مدينة بوردو تحضر ثانية الأحاسيس الطفولية القوية جدا. يتميَّز نساء بوردو بتسامحهن، ومرونتهن. إنَّهن بالأحرى مرحات، مستقلاَّت. كتب فريديريك هولدرلين: ”نساء سمراوات يمشين فوق أراضي الحرير”، صورة تلهمها مدينة بوردو. لقد اعتقد بأنه بلغ مدينة بروفانس. احتاج الوضع إلى قرنين من الزمان كي نعلِّق في بوردو يافطة تحمل اسم هولدرلين، عند نهاية شارع تورني.

 

س-حاليا، كيف تتَّسم حالة مزاجك عند قدومك إلى مدينة بوردو؟

فيليب سوليرز: حين المجيء إلى بوردو على متن القطار، فماذا أرى: الأضواء، والبهجة ثم الكروم. لازلنا نعاين غالبا وجود نخلة أمام المنازل، كأنَّنا غادرنا فرنسا. أسرعُ الخطى صوب ”فندق انجلترا” أمام المسرح الكبير، أحجزُ غرفة في الطابق الأعلى تشرف على نهر الغارون. المعالم التاريخية التي تستحضر حقبة الأمير الأسود، يبدو معها الطابع الانجليزي قويا جدا. تشرئبُّ دائما أعناق حكَّام بوردو نحو انجلترا باعتبار الأخيرة نموذجا للحكم.ينظر النهر والدالية صوب وجهة انجلترا. نستحضر نبيد ”كلاري” (تلفَّظها سوليرز بنبرة انجليزية) الذي يشربه شكسبير قبل ولوجه ركح المسرح.

 

*مرجع الحوار:

   L’ obs :21 novembre 2003.