حسن عبادي
ناقش لقاء “منتدى حنا أبو حنا للكتاب” الحيفاوي الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009) رواية “الابنة الغامضة” للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي (رواية، 165 صفحة، عنوانها باللغة الإيطالية “La figlia oscura” ترجمة شيرين حيدر ومراجعة د. عز الدين عناية) وتعذّر حضوري لمشاركتي حفل إشهار كتاب “ندوات أسرى يكتبون” في رابطة الكتّاب الأردنيّين بعمان.
تختار ليدا، المرأة، المطلقة، الأم لابنتين، والمحاضرة الجامعيّة، أن تقضي إجازتها الصيفيّة لأسابيع طويلة في أحد سواحل نابولي استعداداً لسنة أكاديميّة جديدة. تسترخي معظم وقتها على الشاطئ، مع كتبها وأوراقها، وسرعان ما يصيبها هوس مراقبة عائلة تجاورها كل الوقت على الشاطئ، ولفت انتباهها بالأخص أم شابّة برفقة صغيرتها ودميتها.
أخذني المشهد لأحداث يوميّة ترافق كلّ منّا؛ فحين نجلس في المقهى أو المطعم أو على الشاطئ نبني سيناريوهات عمّا يجري حولنا، ونتخيّل ما يدور بين من يجاورنا، غرباء مثلنا، ونتساءل عن التركيبة الاجتماعيّة وعن كلّ ما يدور بينهم من أحاديث واهتمامات، وذكّرني بمقاهي الشانزليزيه الباريسيّة، فكلّ الكراسي باتجاه الشارع (لا يقابل الواحد مِن روّادها من يرافقه) ليتمتع كلّ منا بتلصّصه على الشارع وروّاده ويبني لكلّ منهم حكاية يتخيّلها.
تتناول الكاتبة بمِشرطها الحاد مؤسسة العائلة، تلك العائلة الإيطالية التقليديّة، الأمومة وصراع الأجيال.
تنزع الروائية القدسية عن الأمومة في رفضها للصور النمطية التي تقدم العلاقة بين الأم المتمرّدة وطفلتها وزوجها/ والد طفلتها والعائلة الكبيرة، وكشف عُري وزيف العلاقات، الظاهرة والخفيّة، وما بينهما، وما يدور في فلكهما، والمخفي أعظم.
تتناول ظواهر اجتماعيّة سائدة، وتحاول تفكيك عقدها وتبسيطها.
تحاول بجرأة تُحسد عليها اختراق تابوهات مقدّسة وتحطيمها، عبر الأمومة، والعواطف التي تحيطها.
تصدم الكاتبة قارئها منذ بدايتها “أكثر ما يصعب علينا روايته هو ما لا نستطيع نحن أنفسنا فهمه” كي يكون وقع تحطيم الصورة المثاليّة للأم والعائلة والرباط المقدّس الذي يغلّفهما أخفّ وأسهل.
تثير بطلة الرواية، ليدا، تساؤلات عبر صفحات الرواية عن دورها كأم، من خلال المصطافة وابنتها، وعلاقتهما، فيما بينهما، ومع الزوج/ الأب والعائلة.
تتساءل ليدا “عندما انتقلت ابنتاي للإقامة في تورنتو حيث كان والدهما يقطن ويعمل منذ سنوات عدة، اكتشفت بدهشة يخالطها الحرج أنني لم أكن أشعر بأي ألم، لا بل كنت أشعر بنفسي خفيفة كما لو كنت بذلك قد أنجبتهما أخيراً. للمرة الأولى منذ خمسة وعشرين عاما تقريبا لم تُلِّح عليّ ضرورة الاهتمام بهما”.
وكذلك تشارك القارئ بشعورها وأحاسيسها وعواطفها تجاه ابنتيها، قبل وبعد انفصالها عن زوجها/ والدهما، ورحيلهما معه وإليه، إلى كندا، بعيداً عنها، لتطرح السؤال الأزلي حول العلاقة بين النجاح المهني/ العلمي والأمومة، بين الطموح والتقدّم المهني مقابل العائلة؟ هل هي أنانيّة مفرطة أم نرجسيّة أم تضحية؟ هل يستأهل النجاح تلك التضحيات العائلية؟ ويبقى السؤال مفتوحاً.
نجحت في تهييج القارئ عبر الطفلة ودميتها “المفقودة/ الضائعة” وما تعنيه لها، واضطراب العائلة خلال رحلة البحث عنها وما تعنيه.
لفت انتباهي أن فصول الرواية مرقّمة، دون عناوين، فجاءت انسيابيّة غير موجِّهة وراق لي الأمر حيث تحفّز القارئ لعنونتها كما يحلو له.
جاءت الرواية فلسفيّة لأبعد الحدود، لترسم العلاقة بين الأم وبناتها، “ماما لم أقل ذلك أبداً، أنتِ من يقول ذلك، لقد اخترعتِ القصة”. ولكنني لا أخترع أي شيء (ص. 33)
راقت لي فكرة الانتقام اللذيذ، الجهنميّة، من جوفاني “فكرت في العودة إلى البار، والجلوس إلى جانب جوفاني، وتشجيعه صراحة في لعبة الورق، تماماً كما كانت ستفعل شابة شقراء في أحد أفلام العصابات. كان كهلاً نحيلاً لم يتساقط شعره، وحده جلده تبقّع وغارت فيه التجاعيد، وقد اصفرّت قزحته وغطى غشاء خفيف بؤبؤه. لقد مثّل، وكنت سأمثّل بدوري. كنت سأهمس في أذنه، وأحف ثديي بذراعه، وأضع ذقني على كتفه وأنا أتلصّص على أوراقه. كان سيمتنّ لي حتى آخر أيامه.” (ص.35)
يبدو أن التمنيّات والدعوات دوليّة/ عالميّة عابرة للثقافات، فتقول روزاريا: “آمل أن يصيب مرض خبيث دماغ ذاك الذي سرقها” (ص.72)، وكذلك أمر العادات اليومية “باتوا يمتلكون كل شيء الآن، الناس يستدينون ليشتروا سخافات. زوجتي لم تكن تهدر قرشاً واحداً، لكن نساء اليوم يرمين المال من النافذة”. (ص.124).
وكذلك الأغاني المشتركة في عصر العَولمة، فتقول “في السيارة استمعت طوال الطريق إلى الأغنية نفسها “The man who sold the world”، كانت جزءاً من شبابي” (ص.97)، وكذلك الأمر حين تقول ليدا: “حلّ في جسدي برد الجناح الأعوج “The chill of the crooked wing”. أتنشّف، أتدثّر. كنت قد علّمت ابنتيّ تعبير أودن صاحبة المقولة السابقة، وكانتا تستخدمانه كجملة متواطئة نتبادلها لنقول عن مكان ما إنّه لا يعجبنا أو إنّ مزاجنا متعكّر أو ببساطة إن اليوم يوم بارد وبشع”. (ص. 114)
راقت لي صراحتها وجرأتها في معاملتها لابنتيها في فترة المراهقة والانفتاح الجنسي “على أي حال لا بأس بتلبية مطالب ابنتيّ. كانت بيانكا ومارتا، وفقاً لتناوب حدّدتاه بشراسة، قد طلبتا مني مئة مرة في أواخر مراهقتهما أن أخلي لهما الشقة. كانت لديهما قصصهما الجنسية، وقد كنت متجاوبة دائما. كنت أفكّر: البيت أفضل من السيارة، من طريق معتم، من حقل فيه شتّى ضروب الإزعاج حيث تتعرضان للكثير من المخاطر”. (ص.155)
وأخيراً؛ كم أتفق والكاتبة وهي تعبّر عن لسان حالي “طالما كانت القراءة والكتابة طريقتي في استعادة الهدوء”. (ص. 53).