الدكتورة خديجة زتيلي
“هل العالم على أعتاب حرب عالمية جديدة؟”
إنّها الحرب ..
حدثَ أوّل قصف جوّي إرهابي على مدينة نوتردام في ماي 1940، وتبعهُ قصف لندن في صيف العام ذاته، ثم تلاه قصف الحُلفاء للمدن الألمانيّة، كان إدغار موران Edgar Morin (1921- ..) في جبهة الحرب وقتئذ عندما اسْتفاق على هول ما يجري من حوله قائلا: ”إنّها الحرب”.
يستعيدُ موران في كتابه الجديد: من حرب إلى حرب De guerre en guerre الصادر عن منشورات Éditions de L’Aube في شهر جانفي 2023 مآسي ما عاشه في الحرب العالميّة الثانيّة وكان شاهدا عليه من دمار للأبنيّة والمنشآت والإنسان، لقد توالى تحطيم مُدن عديدة مثل هامبورغ وبرلين وغيرها، وتفنّنتْ القاذفات البريطانيّة والأمريكيّة في 13 و14 فيفري من عام 1945 في إلحاق الأذى بالناس بعد رميها لألفين وأربعمائة وثلاثين طنّا من القنابل الحارقة على مدينة دريسدن Dresden، مخلّفة، في أعقاب ذلك، أكثر من ثلاثمائة ألف قتيل. وفضلا عن الأحداث الضخمة التي يرويها الكاتب فإنّ ديدنه لم يكن فقط التذكير بالحروب ومآسيها، خاصّة وأنّ العالم يشهد، منذ عام، حربا جديدة بين روسيا وأوكرانيا، بل كان يروم، فضلا عن ذلك، طرح إشكاليات ذات صلة بالأخلاق والحضارة والمصير وبوجودنا الأرضي، بوجه عام، والخشية من الانزلاق نحو حرب عالمية جديدة إذا لم يتمّ الانصات إلى صوت العقل والضمير.
لا شكّ أنّ لا طاقة للبشر على احتمال أهوال الحرب مهما أوتوا من قوّة، يَعترف موران بهذا الصدد قائلا: «كلّ هذا تَركَ في نفسي انْطباعاً قويّاً» (1). لقد كانت جرائم النازيّين مُرعبة، وهو الأمر الذي عَرَّضَهم إلى المساءلة والتحقيق، لاحقا، عندما أُثير الجَدل والنِقاش، في المنظومة القانونية الدوليّة، حول جرائم الحرب الممنهجة والعنف والتعذيب والقتل وما يترتّب عن ذلك من مسؤوليات جنائيّة. فمن الواضح، بالأدلّة، أنّ ألمانيا النازيّة ومُعسكرات هتلر قد ارتكبتْ جرائم مُنظّمة ضدّ السكّان واليهود والغجر والشيوخ والنساء والأطفال، وقد أدانتها، بعد الحرب، مُحاكمات نورمبرغ Le procès de Nuremberg الشهيرة. ليس هذا فحسب بل يُذكّر موران، في السياق ذاته، بالجرائم الستالينيّة ومذابحها العُنصريّة، وبالإبادة العمياء التي طالتْ البشر جرّاء ذلك، ولا شكّ أنّ كلّ تلك الجرائم لا يَطويها التاريخ. ولكن سؤال موران الوجيه، وهو يتناول في كتابه الجديد فظاعات تلك الحرب: «كيف لا نَتَذَكّر فرنسا التي كانتْ قد تحرّرتْ للتوّ من القمع، ولكنّها راحتْ تقمع تطلّعات الشعب الجزائري للحريّة» (2) بمجازر دمويّة في مدينة سطيف الجزائريّة في ماي 1945، راح ضحيّتها أزيد من خمسة وأربعين ألف قتيل!؟ وكأنّ موران يقول، في هذا المقام، كيف نُناهض ونُحارب القمع والاستعمار في بُلداننا ثم نُمارسه في بلدان أخرى، وهو سُؤال أخلاقيّ عميق لا يَخلو من قلق وحيرة ومنطق، وهو راهنيّ بالنظر إلى الحروب التي تُحيط بكوكبنا.
هستيريا وأكاذيب الحرب ..
إنّ الحرب في كلّ زمن شرسة وهستيريّة بالقياس إلى الأفعال المضطربة والوحشيّة التي تُخلّفها، ولا تَشذّ الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) عن هذه القاعدة، فقد تنامى في أثنائها خِطاب الضَغينة بين الألمان والفرنسييّن وأصبح أكثر عُنفا، ولعلّ نتائجه الكارثيّة ظهرتْ بشكل هستيري في الحرب العالميّة الثانيّة مع كلّ أعمال التخريب والانتقام التي حدثتْ من الطرفين، فاقمها الإعلام المزيّف والدعاية الحزبيّة والإيديولوجيّة والبيانات الصحافيّة الكاذبة، التي زادتْ من حدّة التصعيد والانتقام وإخفاء الحقائق. وفي الواقع فإنّ «أيّ حرب، بما فيها الحرب الحالية، [بين روسيا وأوكرانيا]، تُفضّل أكاذيب الحرب ..» (3). وعلى مستوى آخر فإنّ تعاظم الهيستيريا في الحروب يُؤدّي إلى ازدهار نشاط الجَوْسسة وانْعدام الثقة والهوس بإمكانيات الخصم والاعتقاد أنّ المجال ”الحربي” مُخترقا ومَكْشوفا للعدوّ.
تَجْريم الشعوب ..
عطفا عمّا قيل فإنّ هستيريا الحرب تَتَجَلّى في إطْلاق العنان لخطاب الكراهية، الذي يعمل على تجريم جماعي للشعب الخصم وتوصيفه بكلّ النُعوت المقيتة، وحتّى لو كان المذنب فردا واحداً أو قائداً بعينه فإنّ الشعوب هي التي سوف تَتَحَمَّل وِزر مغامرات وجرائم قادتها، وقد انسحبَ هذا الأمر على الشعب الألماني الذي أُدِين بجرائم النازية في الحرب العالمية الثانية، وما يَتبعُ ذلك من كُره لثقافة الشعوب المعادية وتبخيس لمكانتها وتجريم لفنونها. وهي وجهة النظر التي لا يَصطفّ موران وراءها موضّحا: «أنا من القلائل الذين قاوموا، أثناء الحرب العالميّة الثانية، التجريم الجماعي للشعب الألماني، وكنتُ جزءا من المقاومة. لقد كتبتُ دائما مَناشير سريّة مُعادية للنازية» (4).
فباسم التجريم والمسؤوليّة الجماعيّة للشعوب، وهي من السمات الخاصّة بهستيريا الحرب، تتسارع وثيرة الجرائم وتزداد قسوتها، ومن أمثلتها إعدام الجهاديّين لنساء وأطفال فرنسيّين مُبرّرين أفعالهم بما يَجري من أحداث تستهدف المدنيّين في الشرق الأوسط. وإنّه ليس خافيا، حسب تقدير موران، أنّ قسما كبيرا من السكاّن الذين يتعرّضون للدعاية الحربيّة في وسائل الإعلام يؤمنون بشكل أعمى بتلك الأكاذيب ويُبرّرون العُنف والنهب والقتل والاغتصاب، وعلى هذا المنوال تُضاعف ”هستيريا الحرب” من جرائم الحرب من خلال القسوة على الأسرى والجرحى وإعدام الرهائن وقصف المدنيّين وتدمير المدارس والمستشفيات.
علينا أن نأخذ بعين الحُسبان، حسب موران، أنّ «هناك حروبا أكثر إجراما من أخرى، مثل تلك التي شنّتها ألمانيا النازية على الاتّحاد السوفياتي أو غزو روسيا لأوكرانيا، غير أنّ أيّ حرب بطبيعتها وبسبب الهستيريا التي تُمارسها الحكومات ووسائل الإعلام من خلال الدعاية الكاذبة، تحمل في طياتها إجراماً يتجاوز العمل العسكري البحث» (5). فلقد أثبتتْ التجارب التاريخيّة أنّ الحرب تجربة مُؤلمة وقاسية، تُمزّق بُنيان المجتمعات ونسيجها، وما حدثَ في حرب البوسنة لَأَكبر دليل على ذلك، فقد تعايش المسلمون والأرثودوكس في البلاد بشكل سلمي لزمن طويل، وأثمر ذلك التعايش عن زيجات مُختلطة وتوافق اجتماعي، لكن الحرب في يوغوسلافيا شقّتْ ذلك الوفاق وبدّدتْ تلك السكينة ودمّرتْ النسيج المشترك وأثارتْ الكراهيّة والعداء بينهما، ولا يبدو أنّ الأمور يُمكنها أن تعود إلى سابق عهدها بيُسرٍ وفي وقتٍ وجيزٍ.
واليوم تتصاعد وثيرة الحرب في روسيا وأوكرانيا، وتتعاظم برامج التجسّس في البلدين معاً، وتزداد الدعاية المغرضة، خاصّة تلك التي تنشرها روسيا وتصف فيها الأوكرانيين بالنازيّين، بحيث يَصعبُ معها معرفة ما مدى اقتناع الشعب الروسي بهذا الرأي! «لكنّ حَظْر الأدب الروسي، بوشكين، تولستوي، دوستويفسكي، تشيكوف، سولجينتسين، وموسيقى الملحّنين الروس هو علامة مُقلقة للغاية لكراهية الحرب، ليس فقط ضدّ شعب ولكن ضدّ ثقافته أيضا» (6). إنّها مُعضلة حقيقيّة في سياق تأثيرات الحرب على الفكر والثقافة والحضارة، ولا يُخفي موران مَخاوفه من تداعياتها، مع انْتقاده لوسائل إعلام بلده ”فرنسا” التي تَنْخرط في الدعاية الحَربية وتُخفي سياقات الحرب المستمرّة منذ 1914، وتَجعل الناس يَكرهون روسيا، مع مُطالبته بفحص دور الولايات المتّحدة الأمريكيّة في هذا الصراع.
تطرّف الصراعات وخَطَر التَصْعيد ..
يصعبُ تأطير الحرب الحالية لأنّها ليستْ شبيهة بغيرها، لكنّ تطرّف الصراعات والحروب هو أمر غير خافٍ، وهنا يعود موران بذاكرته إلى الوراء، إلى مُعسكرات الإبادة الجماعيّة، في الحرب العالمية الثانية، والسباق المحموم نحو أسلحة الدمار الشامل. ثم يسوق أمثلة أخرى أكثر معاصرة عن تطرّف الصراعات، بشكل عام، فيذكر: الحرب في يوغسلافيا (1991-1995)، التي أثارتْ النَعرات القَوميّة وفَرَّقَتْ بين الإخوة والجيران بشكل دموّي، والصراع في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي ونتائجه الكارثية على البلاد. كما يُدرج، أيضا، الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الذي بدأ مع تطوير مُستعمرة صُهيونيّة على أرض عربيّة، وتواصلَ بالإفراط في قمع الفلسطينيّين وتَهجيرهم وتَشتيتهم في المخيّمات في الأردن ولبنان. وهذه الأمثلة التي يَسوقها موران وغيرها، إنّما تُعبّر، في حقيقة الأمر، عن مَخاوفه من «تطرّف الحرب الأوكرانيّة التي يُمكن أن تُصبح عواقبها الكوكبيّة وخيمة وتَتَحَوَّل إلى حرب عالمية جديدة» (7)، إذا تفاقم خطاب الكراهيّة والتصعيد.
الحرب والمفاجآت .. الخطأ والوهم
يَشهد تاريخ الحُروب أنّ لحظة اشتعالها تكون مُفاجئة وغير متوقّعة، وهذا الأمر ينسحب على الحرب العالميّة الأولى، مثلا، التي اندلعتْ بعد هُجوم شنّه مُتعصّب صِربي على أرشيدوق النمسا في سراييفو. وتَنْطوي هذه الفكرة على اسْتحالة وضع حسابات دقيقة لبداية الحروب أو نهايتها، بالرغم من مهارة الساسة وخِبرة العسكريّين في الاستراتيجيات، إذْ لم يكن متوقّعا في عام 1945 استخدام السلاح الذرّي ضدّ مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. كما لا يمكن تَوَقّع نتائج سياسات القادة وبرامجهم الاقتصاديّة في مجتمعاتهم، ففي ثلاثينيات القرن الماضي امتلأتْ رؤوس الحُكّام والمحكومين في الغرب بالأخطاء والأوهام عن التطوّر التقني – اقتصادي، الذي حوّل المجتمعات الغربية إلى مجتمعات اسْتهلاكيّة، والنتيجة تردٍ أخلاقي – سياسي وأزمات كوكبية.
واليوم نحن في أتون أزمة ”الإنسانيّة” يقول صاحب كتاب من حرب إلى حرب، وقد «عجزنا عن الوصول إلى الإنسانيّة» (8)، ففي ظلّ الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا لن تتكرّر فقط أهوال وجرائم الحروب السابقة، ومنها أهوال الحرب العالمية الثانية، بل ستظهر أخرى جديدة، وأخطاء جديدة وأوهام جديدة ومفاجآت جديدة. ولهذا يُذَكِّر موران بالحروب التي عَرَفها «لأنّ كلّ الحروب تنطوي على إجرام» (9).
أهميّة السياق في الحروب ..
لا يمكن في الحرب الحالية، بين روسيا وأوكرانيا، تجاهل السياقات التاريخيّة والجيوسياسية والعلاقات مع الولايات المتّحدّة الأمريكيّة، وبنظرة تاريخيّة أكثر اكتمالاً، يتّضح ما مدى إمبريالية روسيا وأمريكا واشتراكهما معاً في الاستعمار والاستلاء على أراضي الغير وعلى مقدّراتها في القارّات المختلفة، والتنكيل، في الآن معاً، بسُكّانها، ويحدثُ التنافس المحموم بين الدولتين من أجل التربّع على صدارة التفوّق التقني والاقتصادي والعسكري، لكنّ الصين تَدْخل على خطّ هذه المنافسة وتُفسد الكثير من الحسابات.
جدليّة العلاقات الأمريكيّة الروسيّة ..
في كتابه من حرب إلى حرب يَسْتَحضر الكاتب، فضلاً عمّا قيل، التاريخ السياسي المعاصر لروسيا منذ ميخاييل غورباتشوف وبوريس يلتسن والمحادثات مع الرئيس الأمريكي بوش، وحرب روسيا في الشيشان، والقصف الأمريكي على صربيا عام 1999، وعلى العراق عام 2003، والتدخّل العسكري لروسيا في سوريا و الإبقاء على نظام بشّار الأسد قائما. وهو من خلال عرضه لكلّ تلك الأحداث يَسْتجلي حقيقة تَوجّس كلّ طرف من الطرف الآخر ومن سياساته ونفوذه في العالم. كما يَتَوَقَّف الكاتب عند موقف أوكرانيا المتذبذب سياسيّا، في العقدين الأولين من هذا القرن، بين مُوالاتها للغرب تارة ولروسيا تارة أخرى.
أوكرانيا في مهبّ الصراعات والحروب ..
يسترسل موران في الحديث عن تاريخ أوكرانيا الحديث منذ ثلاثينيات القرن الماضي: عن الاضطرابات والحروب وحركات الاستقلال، عن إطاحة ثورة 2014 بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا وصعود فلودمير زيلينسكي إلى سدة الحكم في 20 سبتمبر 2019، عن غزو أوكرانيا في عام 2022 وانضمامها إلى حلف الناتو، وعن جملة المساعدات الاقتصاديّة والعسكرية التي تَحْشدها الدول الأوروبيّة لأوكرانيا، وتسارع وثيرة الحرب وتزايد المخاوف من استخدام السلاح النووي في هذا الصراع.
من أجل السلام ..
إنّ خطر الحرب يتعاظم، والأصوات المنادية بالسلام خجولة، ووسائل الاعلام الغربيّة لا تُرحّب به لأنّها تعتبره اسْتسلاما لبوتين الذي يصفه موران بالطاغية، فهل يحلّ السلام ويتمّ الاعتراف باستقلال أوكرانيا، إمّا من خلال وضع الحياد أو اندماجها في الاتّحاد الأوروبي بضمانة عسكريّة، وما هو مصير المناطق الانفصالية كدومباس مثلا؟ كلّ شيء قابل للتفاوض والسلام ضروري لأنّه يُخفّف من مشاعر الكراهية ويحدّ من الأزمة البيئية والاقتصادية وأزمة الحضارات. تُثير الحرب الحالية أزمة، و «تُفاقم وستؤدي إلى تفاقم الشرور والأزمات الناتجة عن هذه الحرب. ففي عام 2017 كان هناك ثمانون مليون إنسان على وشك المجاعة. وبعد الجائحة مائتان وستة وسبعون مليونا، وفي الوقت الحالي ثلاثمائة وخمسة وأربعون مليونا. وكلّما ازدادت الحرب سوءا كلّما كان السلام صعبا وكان أكثر إلحاحا. فلنتجنب حربا عالمية، ستكون أسوء من سابقتها» (10). فهل من عقل يَسْتوعب هذا النداء العاجل!
************************
(1) Edgard Morin, De guerre en guerre : De 1940 à L’Ukraine, (Éditions de L’Aube, 2023), p9.
Ibid, p14. (2)
Ibid, p18., (3)
Ibid, p24., (4)
Ibid, p27., (5)
Ibid, p29., (6)
Ibid, p41. (7)
Ibid, p51. (8)
Ibid. (9)
Ibid, p85. (10)
*الخبر