نزار فاروق هرماس
لُقَيْرَة، مرصوفةٌ بالذِّكريات،
تُهدهِدُها رياحُ شمال وجنوب،
في مهدِ أطلالِ الزّمنِ المفقود.
هنا، كان الأذانُ يعلو من جامعِها الكبير،
قبل أن يُنتزعَ اسمُه،
ويُعمَّدَ “سانتا ماريا ديلا فيتوريا”،
إعلانَ نصرٍ فوق صرح موؤود.
أجبروا على الرّحيل،
وعطر صقلِّيَةَ الفوّاح لا يزالُ عالقًا
بِبرانيسهم المغربيَّة،
دعواتُهم مكتومةٌ بثقلِ المنفى،
والبكاءُ صامت،
والرَّجاءُ مُكبَّلٌ بالحسرةِ الخانقة.
في رُبعِهم الجديد،
زرعوا البقولَ الجنوبيَّة
تحتَ ظلالِ عرائشِ النّخيل،
وأحراشِ التِّينِ والزَّيتون،
بأياديهم الصقلِّيَّةِ الخشِنة،
احتضنوا التُّرابَ من جديد،
وبنَوا من صمتِ النَّفي
صقليّةً جديدةً.
بِيَدِ الطّاغيةِ دي بارليتا،
سُفِكَ الدَّم، وقُتِلَ كثيرون،
وأُسِرَ مَن تبقّى،
ثُمَّ بيعوا كالأشياء في أسواقِ العُبوديَّةِ “المتحضِّرة”.
لكنَّ التاريخَ أصمّ،
لا يسمعُ أنين المُستعبدين
إذا كانت أسماؤهم لا تُكتب بأحرف اللّاتين.
لوسيرا: مدينةُ المنفيّين،
طمَرَتها الذّاكرةُ المُسيَّسة
تحتَ غُبارِ النّسيانِ المُؤدلَج،
لكنَّ الحجارةَ لا تنسى،
والخواطر، إذْ تنبشها من ركام الغياب،
تستحضر بها فلسطين.
*لوسيرا (Lucera)، التي كانت تُعرف بالعربيّة باسم لُقَيْرَة، هي مدينةٌ إيطاليّة تقع في إقليم أبوليا (Apulia) جنوب البلاد. وقد شكّلت الملجأ الأخير للمسلمين المطرودين من صقلية، الذين نُفوا قسرًا في القرن الثالث عشر بأمر من الإمبراطور فريدريك الثاني.إلى جانب لوسيرا، تم اختيار مدن ومناطق أخرى قريبة لاستقبال هؤلاء المنفيين، من بينها جيروفالكو (Girofalco)، المعروفة اليوم باسم جيريفالكو (Girifalco) في إقليم كالابريا (Calabria)، وأتشيرنزا (Acerenza) الواقعة في منطقة لوكانيا (Lucania) التابعة لإقليم بوتنزا (Potenza). كما نُفيت مجموعاتٌ أصغر من المسلمين الصقليين إلى بلدات محلية مثل ستورنارا (Stornara) في إقليم أبوليا.في لوسيرا، أسّس هؤلاء المنفيّون مجتمعًا زراعيًا مزدهرًا، وواصلوا حياتهم لعدّة عقود، رغم عزلتهم وتقلّبات السياسة. لكن بعد نحو خمسة وسبعين عامًا، وفي عام 1300، شنّ جيوفاني بيبّينو دي بارليتا (Giovanni Pippino di Barletta)، وبتواطؤٍ من شارل الثاني، ملك نابولي، حملةً دموية استهدفت القضاء النهائي على الوجود الإسلامي في المنطقة.ذُبح الآلاف في تلك الحملة، وأُسر من تبقّى منهم، ليُباعوا في أسواق العبيد المنتشرة آنذاك في أوروبا المسيحيّة. فُرض التعميد الجماعي القسري على الأطفال والناجين، وانتُزعت هويّتهم الدينيّة والثقافيّة بالقوّة. كما هُدّمت المساجد، وعلى أنقاض الجامع الكبير في المدينة، شُيّدت كاتدرائية “سانتا ماريا ديلا فيتوريا”، كرمز لانتصار الحملة الصليبيّة على ما تبقّى من المسلمين.
*جامعة فيرجينيا