المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

مارتن هيدجر والطريق إلى التقنية

بقلم الطالبة: سارة بوطريق

لما كان الإنسان ليس مجرد فوهة يمكن انفتاحها من وقت لأخر لتتلقى محتوى صادرا عن العالم، بل وجودا في العالم متموقع دائما(1)، فان مساحته المتفردة هذه تتطلب منه دوما اعادة النظر في كل مايحيط به ومساءلته من جديد لفتح حوارات حميمية معه تسمح بالوصول الى كنه والكشف عن حقيقته.
ومن بين ابرز المسائل التي لا تزال تفرض ذاتها بالحاح للتفكر فيها بجدية مسألة االتقنية، اذ اصبحت واقع يحيط بنا من كل حدب وصوب ويزداد في الانتشار والنمو دون ان نتمكن من تفسيره وفهمه ولا حتى رسم حدوده ولعلنا نحسن القول اكثر اذا حاولنا قراءة التقنية على الحرف الثاني لا على النمط المعتاد و المألوف او تركنا مارتن هيدغر يروي لنا حكاية هذا الواقع الملغز، على اعتبار انه من بين الذين اولو عناية خاصة بهذا الموضوع وهذا ليس بالنظر الى عدد المؤلفات التي خصصها لمعالجة هذه المسألة فحسب، بل لجدة طرحه وعمق تناوله ومعالجته
لذا فإشكاليتنا تتعلق بوجه عام بالتقنية عند هيدجر وبالتحديد بماهيتها وحقيقتها وعليه: كيف فهم مارتن هيدجر مصطلح االتقنية؟ وما موقفه منها؟ أو بطرح اكثر دقة: إنطلاقا من ماذا يتحدد الطابع االتقني للتقنية عند هيدجر؟ وماهو الحل المقترح لمواجهتها؟
لكن قبل المضي قدما في الطريق الذي سلكه هيدجر لتقصي هذا الموضوع يجدر بنا ان ندرك مسبقا الطريقة القدسية والمجلة التي يعامل بها هيدجر اللغة لانها تشكل حسبه مكمن انسانية الانسان، بل مسكنه وموطنه الابدي
لهذا فان هيدجر لن يحدثنا عن اسباب ونتائج وافاق التقنية بل عن ماهيتها الاصلية ومكونات

(1). خليل احمد خليل: مداخل الفلسفة المعاصرة، دار االطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، سنة 1988، ص 12
منطوقها الحقيقية اذ نجده في كتابه: االتقنية – الحقيقية – الوجود يدعونا الى اقامة حوار حر مع ملفوظ التقنية اذ يقول ” اننا نسأل في موضوع االتقنية ونريد بذلك ان نقيم علاقة حرة معها، والعلاقة تكون حرة عندما تفتح كينونتنا على ماهية التقنية، التقنية وماهيتها ليسا نفس الشيء
عندما نبحث في ماهية الشجرة علينا ان نفهم ان الذي يحكم كل شجرة باعتبارها شجرة ليس هو ذاته شجرة يمكن ان نصادفها ضمن اشجار اخرى، وبالمثل فان ماهية التقنية ليست مطلقا شيئا تقنيا “(1). ان هذا القول يوضح لنا المعالم التي سيتحرك فيها هيدجر اثناء معالجته لاشكالية التقنية ومنه اصبحنا نميز الان نبرة الخطاب الذي سيحدثنا به هيدجر، انه ليس خطاب االسياسيين او العلماء او السوسيولوجيين والاقتصاديين وانما هو خطاب اللغوين الذين يحسنون الاصغاء للغة وينقلون لنا نداءاتها
ولنميز هذا النداء يجب علينا ان ان نتمعن جيدا في الاجابات الجاهزة، فاذا اردنا ان نسال عن ماهية التقنية فسيعترض طريقنا اجابتين: تقول الاولى بانها وسيلة من اجل تحقيق بعض الغايات فيما تقدمها الاجابة الثانية على انها فعالية خاصة بالانسان وكلتا الاجابتين تمثلان تصورا مألوفا بالنسبة لنا. ” ويمكن ان نسمي هذا التصور الجاري للتقنية، والذي بمقتضاه تكون التقنية وسيلة وفعالية انسانية، بالتصور الاداتي والانثروبولوجي للتقنية، انه تصور يناسب بشكل ظاهر كل ما نراه ونحن نتكلم عن التقنية، واكثر من ذلك فهو يوجه كل الجهد ليضع الانسان في علاقة صائبة مع التقنية لهذا نريد ان نتحكم في التقنية ونوجهها لصالح غايات روحية، نريد ان نصبح سادة عليها، هذه السيادة التي تصبح اكثر الحاحا كلما هددت التقنية بالانفلات من مراقبة الانسان، ورغم صحة هذا التصور الاداتي للتقنية، الا انه لم يكشف لنا بعد عن ماهيتها “(2)
بعد هذه النتيجة الجزئية التي توصل اليها هيدجر يحيل نظرنا الى الجوانب الاشتقاقية لكلمة االتقنية اذ يتساءل مجددا ماذا تعني كلمة التقنية؟ ” تقتني ” ” تنحدر هذه الكلمة من كلمة يونانية اخرى هي ” تيكنيكون “، وهي تعني الشيئ الذي ينتمي الى التقنية، فهي لا تقتصر على فعل االصانع فقط، بل تعني ايضا الفن والفنون جميلة، انها صناعة اوانتاج شعري ” (3)
(1) مارتن هيدجر: التقنية الحقيقة. الوجود، ت: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، سنة 1995 ص 44
(2) المصدر نفسه، ص46
(3) المصدر نفسه، ص 53
هذا واذا رجعنا الى حدود فترة افلاطون نجد بانها ارتبطت بكلمة ” ابيستينون ” وهي تعني العلم والمعرفة بينما يميز ارسطو بين المعرفة والتقنية في بحثه الاخلاق الى نيقوماخوس”، حيث تصبح عنده شكلا من اشكال الاليتيا.
” انها تكشف هذا الذي لا ينتج ذاته وهو يمكن ان ياخد مرة هذا المظهر، وهذه الهيئة وياخد مرة اخرى شكلا اخر اي حسب منظورات الانماط الاربعة ( العلل الاربع الارسطية ) التي تترك اللاحظور يتقدم الى الحظور على شكل انتاج، اذن ليس الانتاج هو فقط الصناعة الحرفية، وليس هو فقط الفعل الشعري والفني الذي يظهر في شكل صورة، ان الطبيعة ( بالمعنى اليوناني اي الفيسيس) التي عن طريقها ينفتح الشيئ من تلقاء ذاته هي ايضا انتاج، ان انماط الاتيان بـ: اي العلل الاربع تقوم بعملها داخل عملية الانتاج وبفعل علية الانتاج يظهر الى الوجود، في كل مرة سواءا ما ينمو في الطبيعة او ما تصنعه الحرف والفنون، لذا فالانتاج ينقل الشيئ من حالة الاختفاء الى عدم الاختفاء فهو اذن يتحضر ويقدم ويكشف”(1). هكذا يتبين لنا بان التقنية ليست وسيلة فحسب، بل هي نمط من الانكشاف، وبهذا يتضح لنا بالنسبة لماهية التقنية مجال مخالف تماما للاول ( وسيلة ) انه مجال الانكشاف، اي مجال الحقيقة هكذا يصل هيدجر الى الصيغة المقابلة للمفهوم الانتربولوجي للتقنية والتي من خلالها استطاع ان يقرأ مصطلح التقنية قراءة ثانية تسمح بتلاوة حكاية هذا المنطوق.
التقنية وسيلة تحيط بها العلل الاربع ( العلية ) تقوم الانتاج من الخفاء الى الظهور الانتاج يستند الى الانكشاف ( الحقيقة ).
وبهذا يسجل هيدجر نتيجة ثانية مفادها ان التقنية شكل من اشكال الانكشاف وذلك لانها تنشر كينونتها في المنطقة التي وجد فيها الانكشاف، واللاتحجب و الاليتيا اي حيث وجدت الحقيقة.
” بعد تحديدنا للمنطقة التي يجب البحث فيها عن ماهية التقنية يمكن ان نعترض ونقول ان هذه المنطقة جائزة بالنسبة للفكر اليوناني، واحسن من ذلك نقول بانها تناسب التقنية الحرفية لكنها غير مطابقة بتاتا للتقنية الحديثة القائمة على المحركات “(2).
(1) المصدر السابق، ص52
(2) المصدر السابق، ص55

خصوصا اذا اخدنا بالحسبان اختلاف التقنية الحديثة عن سابقاتها الى درجة انها لا يمكن ان تقارن معها ( وذلك لان هيدجر لا يلبث ان يؤكد هويتها القائمة على العلم الحديث الدقيق للطبيعة ).
لتاسيسها على العلم الحديث الدقيق للطبيعة، الا ان هيدجر لا يلبث ان يؤكد هويتها الكامنة في الانكشاف، لكن الانكشاف الذي يسودها لا يتجلى ان يؤكد هويتها الكامنة في الانكشاف الذي يسودها لا يتجلى في انتاج بمعنى شعري وانما هو عبارة عن تحريض عن طريقه تكون الطبيعة منذورة الى تقديم طاقة، يمكن من حيث هي كذلك ان تستخرج وتراكم
وعليه يمكن القول بان التقنية الحديثة تجد اساسها في الانكشاف المحرّض الذي غيّر بدوره الرؤية الكونية للطبيعة.
” اذ تظهر القشرة الارضية اليوم كحوض للفحم الحجري والارض كمستودع للمعادن والفحم المستخرج من الحوض ” لا يوضع هناك” ليبقى ببساطة هناك، بل انه يخزن، كما ان المحطة الكهربائية التي اقيمت في مكان ما بنهر الراين ترغمه على تسليم ضغطه المائي الذي يرغم بدوره الالات على الدوران لتظهر نهر الراين كشيئ مسخر” (1).
لقد اصبح النهر يكتسب صفته كنهر، اي كممون بالضغط المائي من ماهية المحطة، وهنا تتجلى لنا حدة التعارف بين ” الراين ” كنهر محبوس في معمل الطاقة، و”الراين” كعنوان لذلك العمل الفني الذي هو نشيد هولدرلين.
” ان الانكشاف الذي يحكم التقنية الحديثة يتخد سمة مناداة اي استفزاز وتحريض، لقد حدثت هذه المناداة عندما تحررت الطاقة المختفية في الطبيعة، وماتم الحصول عليه بهذا الشكل تم تحويله، وما تم تحويله تمت مراكمته واختزانه، وما تمت مراكمته تم توزيعه، وما تم توزيعه تم حفضه واستهلاكه من جديد ان الافعال: حصّل وحول و راكم ووزع، وخفض هي انماط الانكشاف اذن التقنية تستمد كينونتها من تسخيرها لشيئ اخر قابل للتسخير بدوره “(2)..
(1) المصدر السابق، ص57
(2) المصدر السابق، ص64
(3)
وبهذا يتحدد الطابع التقني للتقنية اي كانكشاف محرض يستمد صيغته الاساسية من الاستفسار باعتباره مجموع المسائلة والاستنطاق الذي يطالب الانسان، ” أي يحرضه على كشف الواقع كمخزون قابل للتسخيروالاستعمال،هكذا نسمي شكل الانكشاف الذي يسود ماهية التقنية والذي ليس واذا كانت ماهية التقنية الحديثة تكمن في الاستفسار فان على التقنية ان تستعمل علم الطبيعة الدقيق، من هنا ينشا المظهر الخادع القائل بان التقنية الحديثة هي العلم الطبيعي مطبقا”(1). لهذا لا يتوانى هيدجر في استقراء التطور التقني للانسان عبر العصور المختلفة والذي يكشف عن الاتصال الوثيق بين العلم والتقنية ولا يعدو ان يكون اكثر من ظاهرة حديثة العهد، لذلك ان ما توصل اليه الانسان حسب هيدجر ” من اكتشافات واختراعات تقنية قد تحققت بمعزل عن العلم، اي لم تكن تدين للعلم بشيئ، فالذين قامو بها لم بكونوا علماء، ولم يكونوا قد درسوا نظريات علمية معينة، ثم طبقوها فاتاح لهم تطبيقها التوصل الى اختراع جديد بل كانوا صناع مهرة توارثوا خبراتهم جيل بعد جيل، واضافولها من تجاربهم الخاصة فتطورت صناعتهم ببطئ شديد، مما جعل الانتقال من عصر الى عصر يستغرق آلاف السنين “(2).
لقد اكد هيدجر بانه قد شوهدت كشوفات تقنية هامة في العصور الوسطى والحديثة الا انها لم تكن مبنية على اساس علمي كاختراع البارود الذي كان له دور حاسم في الحروب او الطباعة التي غيرت مجرى التاريخ العلمي والثقافي، وهكذا يعوض هيدجر للنظرة التي تصور التقنية على انها التطبيق العلمي للعلم لكن المسألة الاكثر اهمية في نظر هيدجر تكمن في ان التقنية كانكشاف او انتاج فهي تمتلك من الحرية ما يكفي لان تكون سببا اخر يضاف الى جملة الاسباب التي تعدم وتشكل طوقا يهدده باستمرارن وهذا التهديد لا ياتي في الدرجة الاولى من الالات والاجهزة التقنية التي يمكن ان تكون قاتلة، بل ان الخطر الحقيقي يكمن في الاستفسار الذي يعرقل الانسان من العودة للانكشاف الاصلي وسماع نداء حقيقة اكثر اولوية وعليه فان الخطر الاقصى للتقنية يتجلى في القدر الذي يوجه نحو التسخير وهذا ما عبر عنه هيدرجر حين قال: ” ليست التقنية هي ماهو خطير لا يوجد لما هو شيطاني فيها، بل من حيث انها مصير للانكشاف هي الخطر “، اي ان الاستغلال والتحريض المستمر الذي اصبح يحتل مكان القدر او المصير مثلما بالضبط احتل يوما الانسان محل الاله – هو الخطر الحقيقي ولعل لهذا السبب قال هيدجر: ( ان التقنية نهاية لكل ميتافيريقا )(3).
(1) المصدر السابق، ص 65
(2) أبراهيم احمد: اشكالية الوجود و التقنية عند مارتن هيدجر، الدار العربية للعلوم، بيروت، قسنطينة، ط1
(3) المصدر السابق، ص 63

اذن التقنية سلاح ذو حدين تتفاقم اطراف الجانب السلبي منه نهايات الايجابي له ويمكن تشخيص الخطر فيها في كونه بناء مشؤوع الموت من خلال طابعها العسكري وايضا الانسجامي الاستيلابي اين يتحول الانسان فيه الى لعبة او آلة تحركها كما تشاء وبالتالي يصبح عبدا لها وتابعا وخاضعا لامرها لانه مسلوب حقه في الاختلاف متطبع على منسق انسجامها وتماثلها.
لكن هناك حيث يكون الخطر ينموا هناك ايضا ما ينقد ، والانقاد هنا يكون بالنفوذ الى الماهية من اجل اظهارها للمرة الاولى، وبالطريقة الخاصة بها ناي اذا كانت ماهية التقنية “الاستفسار” هي الخطر العظيم فان الذي ينقد يتجدر، وفي عمق كبير، وفي ذلك الذي هو الخطر الاقصى، هي السيطرة على الاستفسار على ان لا تفهم الماهية هنا بمعنى الجنس essentia كالشجرة مثلا، بل اعتبارها الطريقة التي تستعمل وتظهر، اي كالطريقة التي يمارس بها البيت او الدولة قدرته، ويدير، وينمو وينقرض، وهكذا وعكس كل ماهو منتظر تتضمن كينونة التقنية في ذاتها امكانية ما ينقد”
الى هنا يتوقف الدرب الهيدجري في التوجه نحو التقنية لكنه توقف مؤقت فقط لانه لا يزال مفتوحا على عدة مسالك مظلمة ولعل اشدها حلكة وعتمة وهو ذلك الممر المؤدي الى “ما ينقد” اذ لا نزال نتساءل عن كيفية نموها.