بقلم: معاذ محمد رمضان
لم ألتَقِ بالأستاذ سعد محمد رحيم سابقاً، وهذا هو أولُ لقاء لي معه، وسببُ عدم اللقاء معروفٌ لكل متابعٍ لكتاباتي، فمجال قراءاتي واضح: التاريخ والفلسفة والفكر الديني. وجُل كتابات الراحل في مجال القصة والرواية كما هو معلوم، وأنا بعيد عن هذا الفضاء.
إصطحبني الباحث في رحلة ممتعة وشيقة جداً في الفضاء الفكري الماركسي، إذ حاول الباحث “إستعادة ماركس” من خلال هذه الجولة السريعة المكثفة، فهل نجح الباحث فعلاً في هذه “الإستعادة”؟ هذا ما سنجيب عنه في خاتمة المقال.
بدأ الباحث رحلته المُجمَلَة من ماركس وإنجلز بطبيعة الحال، ثم: كاوتسكي، لينين، غرامشي، لوكاش ، مدرسة فرانكفورت، سارتر، ألتوسير، دوبريه، كاستريداس، جون مولينو، غودولييه، جوناثان ري، ثم برفعت السعيد وفالح عبد الجبار.
يظهر الأستاذ سعد محمد رحيم هنا كَباحث ألمعي، باحثٍ يجول في ميدانه بإقتدار، يتعامل مع “ماركس والماركسية” بمنهجية نقدية رصينة. سأدخل الآن في عالم الباحث دخولاً سريعاً مُجمَلاً:
نشرَ الأستاذ سعد محمد رحيم فصول الكتاب الأولى في “جريدة المدى” و”موقع الحوار المتمدن”، فتصدى له الباحث والسياسي الأستاذ فؤاد النمري على الموقع المذكور بمقالة بعنوان “ماركسيون يُمَرّغون راياتهم في الوحول 5ـ سعد محمد رحيم”، وقد فوجىء الأستاذ رحيم بأن الأربعة الذين قصدهم النمري هم من كبار الماركسيين العرب!: كريم مروة ـ سمير أمين ـ محمود أمين العالم ـ كاظم حبيب. وقد إعترف رحيم بالزهو الذين أخذه، فوجود إسمه بجانب هؤلاء الكبار أمرٌ مفرحٌ بالنسبة له. (1)
يعترف الباحث في هذا السياق ب”ماركسيته”، ولكنها ليست ماركسية دوغمائية متحجرة:
(المهم أن ما أود توضيحه في هذا السياق هو، فقط، أن كتابات ماركس والماركسية كانت واحدة من أهم مصادر ثقافتي منذ وقتٍ مبكر، لكنني لم أكن ماركسياً بالمعنى التقليدي والدوغمائي الستاليني، وحتى الحزبي، كما إرتسم في ذهن الأستاذ النمري). (2)
ماركس بنظر الأستاذ رحيم صاحب عقل خارقٍ وذكاء وَقّاد (3)، وفي نَصٍ بالغ الأهمية والدلالة والروعة، يقول الباحث:
(أراد ماركس أن يقرأ كل شيء ، في فروع المعرفة البشرية وآدابها. وأن يكتب في حقول معرفية عديدة، ويعالج مسائل البشرية المستعصية جميعها، غير أن حَدّه البيولوجي المُقَدّر، أي قصر سنوات العمر وحتمية الموت، قياساً لسعة مشروعه الفذ والكبير الذي يتَطَلّب الإنجاز في غضون ثلاث حيواتٍ أو أكثر، لم يدع له الفرص التي كان هو، وكما كانت البشرية ، بحاجة ماسة إليها. كانت عبقريته أكبر من أن يتحَمّل أعباءها جسد واحد، وأن يفي بمتطلباتها عُمر شخص واحد. وكان الفقر والجوع والتشرد عاملاً معوقاً آخر ـ لعله كان مُحَفِزَاً أيضاً ـ في سبيل تحقيق ما حلُم به من أجلنا). (4)
وصف الباحث صداقة ماركس وإنجلز ب”صداقة في نور الفكر والحياة”، وفعلاً فهي صداقة “حديدية” إن جاز التعبير، فالوفاء حاضر فيها وبقوة كما أخبرنا التاريخ ، وخصوصاً إنجلز، هذا الرجل الذي لولا مساعداته المالية لماركس العاجز مالياً، لتغير مسار ماركس الفقير المُدقَعِ على الأرجح. ولا بأس من عرض صورة عن هذا الوضع المالي البائس. ففي رسالة بعثها ماركس الى رفيقه إنجلز في 8 أيلول 1852 (زوجتي مريضة ، وييني الصغيرة مريضة أيضاً، لقد عشنا ثمانية أو عشرة أيام على الخبز والبطاطا وحدهما، أما الآن فقد لا نستطيع أن نحصل حتى على ذلك، إننا مدينون للخباز ولبائع الحليب وللبقال ولبائع الخضار واللحام، فكيف بحق الأرض أستطيع أن أُسَوّيَ هذا المأزق الشيطاني؟) (5)
لجان بول سارتر الفيلسوف والروائي الشهير، رأيٌ باللقاء الأول بين ماركس وإنجلز صدمني بصراحة، يقول الباحث:
(وها هو جان بول سارتر يُطلق على لقاء الشابين بالمشؤوم في كتابه “المادية والثورة”. لأن ماركس، قبل ذلك اللقاء، كان يمضي بإتجاه تأكيد النزعة الإنسانية لنضال العمال الذين كما يقول سارتر: “لم يُطالبوا فقط بكسب زيادة بعض الدراهم ولكن كانت مطالبتهم رمزاً مُجَسِّمَاً في إقتضاء أن يكونوا بشراً وآدميين. وآدميون تعني حريات تملك ناصية مصيرها”). (6) ويستنتج الأستاذ رحيم رأي سارتر: (وإذن فسارتر بفكره الوجودي لم ينظر بعين الرضا الى المنهج المادي الديالكتيكي والنظرية المادية التاريخية مثلما أنضجهما ماركس برفقة إنجلس طوال العقود التالية).
وطبعاً لم يترك الباحث هذه المسألة بدون تعقيب ، وحسناً فعل:
(وبعيداً عن تخيل إفتراضات وإحتمالات لم تحصل في سياق الزمان والتاريخ فإن من الإنصاف الإشارة الى حقيقة أن ماركس لم يكن مراهقاً فكرياً وسياسياً ضيق الفكر وفَجّ العقل ومائع العاطفة ليستدرجه إنجلس الى حيث يرغب. بل إنه إقتنع تماماً بصحة القواعد النظرية التي أرساها رفيقه في مقالاته الأولى، ليُغنيها ويُطوّرها هو “ماركس”. وأن الإثنين شَيّدَا صرحاً منهجياً ونظرياً عملاقاً ما زال يُلهم العقول ويؤثر فيها على الرغم من إخفاقات عشرات التجارب التي تَبَنّت الماركسية وإدّعت ملكيتها وتمثيلها، هنا وهناك، في القرن العشرين). (7)
وكما أثبَتُ في أعلاه ، فقد كان للباحث جولة مع مفكري الماركسية المشهورين ، فلويس ألتوسير الذي وضع حدّاً فاصلاً، العام 1845، بين ماركس الشاب الأيديولوجي الحالم ، وماركس الناضج الذي بات يتخلى عن النزعة الإنسانية البورجوازية. (ولكن، في نهاية المطاف، ليس من الصواب إدانة ماركس الأيديولوجي الحالِم لمصلحة ماركس العالِم، ورفض الأول كلياً والإحتفاء بالثاني كما لو أننا أمام كائنين مختلفين مثلما فعل ألتوسير) (8)
وأنطونيو غرامشي (كان ماركسياً مخلصاً، لكنه رفض عبادة ماركس كمعصوم من الخطأ، فماركس من وجهة نظره، كما قال في العام 1918 “ليس مسيحاً خَلّفَ وراءه سلسلة من الحكايات ذات المغزى الأخلاقي التي تحمل مُلزِماتٍ صريحة وقواعد غير قابلة للتغيير على الإطلاق خارجة عن مقولات الزمن والفضاء، إن المُلزِم الوحيد الصريح والوحيد، والقاعدة الفريدة هي: يا عُمال العالم إتحدوا. وما عدا ذلك تفاصيل قابلة للإجتهاد والنقاش العلمي”) (9)
وسارتر يخرج بنتيجة متناقضة (فإن سارتر يخلص الى نتيجة لا تخلو من مفارقة، يقول أنه لا شك فيها: أن المادية مذهب ميتافيزيقي، وأن الماديين ليسوا أكثر من ميتافيزيقيين) (10)
ويكمن التراث الماركسي الأصيل عند جون مولينو بماركس وإنجلز، مروراً بالجناح اليساري الثوري للأممية الثانية وصولاً الى الثورة الروسية، مستمراً بظروف صعبة بالتروتسكية. وأبرز ممثليه: لينين ـ روزا لوكسمبورغ ـ تروتسكي ـ مهرنغ ـ بوخارين الشاب ـ فكتور سيرج ـ وصولاً لغرامشي ولوكاش.
يُعَقّب الباحث:
(ألا تضعنا هذه الحركات والأسماء إزاء خليطٍ متنوع، غير متجانس، الى حد ما، لماركسيين، أغلبهم، ربما بإستثناء لينين، لم يخوضوا غمار السلطة، ولم يواجهوا مفاجآت ومفارقات وأحابيل التطبيق) (11)
وبشأن الباحث المصري رفعت السعيد، فبرأيه أن الماركسية (هي رؤية للعالم ومنهج لتفكير يعالج كيفية تغيير هذا العالم. ويُقر بأن الماركسية بلا حدود، وبلا ضفاف) (12)
يُعَقّب الباحث: (ومن حقنا، الآن، أن نتساءل: ما هي الماركسية، حقاً، التي يدعو إليها رفعت السعيد؟ ما هي منطلقاتها وأُسسها النظرية، ومنهجها الفكري؟ ألا تتحول الماركسية من خلال أطروحته الى كيسٍ فضفاض يمكن أن نضع فيه أي شيء نراه عملياً وصائباً؟ … وأرى أن الماركسية لا تخرج سليمة أبداً، من بين يديه. فالقارىء سيتساءل بعد هذه السياحة كلها: ما الذي بقي من ماركس والماركسية في نهاية مطافه النقدي ـ التقويضي؟) (13)
أما الباحث العراقي فالح عبد الجبار، فينفي التقسيم الثلاثي اللينيني التقليدي، أي: المادية الجدلية ـ المادية التاريخية ـ الإشتراكية العلمية. ويقترح صيغة مغايرة بتقسيم سُباعي: الماركسية والتاريخ ـ الماركسية ونظرية المعرفة ـ الماركسية والمجتمع ـ الماركسية والدولة ـ الماركسية والإقتصاد ـ الماركسية والقومية ـ الماركسية والعولمة. وله رأي مهم أيضاً ذكره الباحث:
(ينفي الدكتور عبد الجبار وجود مادية ديالكتيكية، ويدحض حاجة الماركسية الى “نظرية معرفة خاصة، جامعة مانعة”لماذا؟ “لأنه أولاً لا توجد نظرية جامعة، مانعة، بل توجد فرضيات متوسعة وبحث متصل. ولأنه ثانياً تجري هذه البحوث في ميادين إختصاص لا قِبَل لفرد أو حركة أن تَلُم بها”) (14)
طبعاً لا يمكن الإلمام بالكتاب بوقفة متواضعة كهذه، وما فعلته مجرد مرور عابر على أفكاره الرئيسية من وجهة نظري.
نعود الآن الى السؤال المحوري: هل نجح سعد محمد رحيم في “إستعادة ماركس”؟ أقولها وبثقة كبيرة: نعم، فقد نجح الباحث في “إستعادته”. يقول الباحث في نصٍ مهم:
(إن التراث الماركسي ليس في ما كتبه الماركسيون فقط، بل ما كتبه منتقدوهم أيضاً ومناوئوهم. ألسنا كلنا ورثة ماركس من هذا المنظور أيضاً كما يقول جاك دريدا؟) (15)
وليس سعد محمد رحيم من نوع الماركسيين الدوغمائيين، بل هو ماركسي مُمارس للنقد الذاتي:
(لم يخلق ماركس ديناً ولم يَدّعِ أنه فعل، وأولئك الذين أحالوا الماركسية الى دين خانوا ماركس حتى وإن لم يفطنوا ، لذا فمن يضيق ذرعاً بالعالم المحكوم بالوحش الرأسمالي لن يجد ملاذاً في كاتدرائية ماركس التي لا وجود لها ، فماركس لا يمنح طمأنينة روحية كاذبة، ولا يواسي، إنه أقسى من هذا، لأنه يفتح عينيك على الهول، ويجعلك ترى ، ويُطالبك لا أن تصرخ إحتجاجاً فقط وإنما أن تفعل شيئاً قبل فوات الأوان، والأوان لن يفوت في عُرف ماركس) (16)
الحواشي:
1ـ سعد محمد رحيم: إستعادة ماركس ، دار أفكار للدراسات والنشر دمشق ـ دار ميزوبوتاميا بغداد ـ مكتبة عدنان بغداد ط1 2021 ص8
2ـ المصدر السابق ص9 وما أحوجنا لهذا النوع من الماركسيين
3ـ المصدر السابق ص14
4ـ المصدر السابق ص28
5ـ المصدر السابق ص48
6ـ المصدر السابق ص43
7ـ المصدر السابق ص44
8ـ المصدر السابق ص67 و 68
9ـ المصدر السابق ص139
10ـ المصدر السابق ص160 لا أعرف كيف يمكن القول بميتافيزيقية المادية!!
11ـ المصدر السابق ص185
12ـ المصدر السابق ص200
13ـ المصدر السابق ص202 يحضرني الآن البعض من “الإسلاميين الحداثيين” وما فعلوه ويفعلوه بالإسلام تحت ضربات الحداثة.
14ـ المصدر السابق ص202 و 204 و 205
15ـ المصدر السابق ص62
16ـ المصدر السابق ص210