خلال الأزمة السياسية الفرنسية التي اندلعت بين فرنسا وبريطانيا في الثمانينات من القرن الماضي، قرّر مثقفو البلدين الاجتماع مرتين في ألمانيا ثم إسبانيا لإيجاد حل للتوتر السياسي بين البلدين، رافضين الانحياز للقطيعة والحملات الإعلامية المعادية بين البلدين.. لكن مواقف المثقفين العرب من أزمات سياسية مشابهة لم تكن – في الواقع- إلا انعكاساً لحالةٍ من الاستقطاب السياسي الحاد الذي تكرّسه الأنظمة الراهنة، ولعل المثال الأبرز في هذه المقاربة (أزمة الخليج الحالية)!! فلماذا عجز المثقف العربي عن تحمل مسئوليته كمثقف معرفي وظل طوال الأزمات العربية يركب عربة السلطة، كلٌّ في بلاده؟ ولماذا سقط الكثير من المثقفين في وحل \”الدولة القُطرية\”، معتبرين أن بلدهم على حق وبقية البلاد مخطئة على حساب التقارب والتصالح والوعي المعرفي الذي يفترض أن تصنعه الثقافة؟! وهل تبقي شيء اسمه مثقف عربي؟!
مجلة (الثقافة الجزائرية) – وفي إطار بحثها عن دور المثقف ومسؤولياته اتجاه الشعوب- طرحت هذه الأسئلة على عدد من المثقفين العرب وعادت بهذه الإجابات وكان ردهم.. نذكر أننا سنترجم الملف إلى اللغة الفرنسية لنشره في مجلة Lire الفرنسية الشهيرة وفق الاتفاق الأخير معهم على ذلك..
د. أسماء الأحمدي: (ناقدة أكاديمية سعودية): دور المثقف الواعي يتجاوز الأنا إلى الآخر والغير
إن الحضور الفاعل للمثقف يتأتى من كونه قادرًا على قراءة المشهد، وإحداث موقف جاد دون إحداث صراع وفتنة، وربما المأزق الحقيقي هي نظرة المثقف لقضايا مجتمعه والمجتمعات من حوله، والتعامل معها إما بتقوقع أو تضخيم، مما يفقده الرؤية، ويسلبه ضمير المواقف، وأدبيات الطرح، وجماليات النقاش، وبنود الحلول. والنظرة القاصرة المعطلة للرؤية تلك المتلصصة بمنظور واحد، وتعصب للذات، وسلب للآخر. ومن هنا يتخلى عند دوره الطليعي كذات واعية ومثقفة، تدرك أهمية وخطورة المهمات الملقاة عليه، أي التي تطلب موقفا إيجابيا نابعا من إيمان بحقيقة وجوده، وقيمه التي يتوجب عليه بثها لإحداث استقرار نفسي واجتماعي وإنساني..!
إن دور المثقف الواعي دور عظيم يتجاوز الحدود إلى اللا حدود، يتجاوز الأنا إلى الآخر والغير.. احترام تفرضه قوانين العقل،وأطروحة السلام.. وقد تكون أسباب ارتباك المثقف شعوره بالغربة..انعدام إتقانه للإيجابية جراء الهموم والضغوط التي يعيشها، لا تكتمل ثقافته.. تضيع منه صكوك الفضيلة، وثقافة الموضوعية؛ ليتحول من ضرورة أن يكون مثقفا إنسانيا منطقيا، إلى مثقف خصوصي تدفعه الأحداث، وتتدافعه الصراعات؛ ليتحول إلى مثقف خصوصي، يسير وفق بنود معارفه،التي يوظفها سريعا ومستعجلا دون إدراك لماهيتها، وتشبع بتفاصيلها، فتخرج رؤيته ضيقة ومعطلة وقاصرة.. ربما تظهر الحاجة إلى المثقف العمومي الذي يدرك أبعاد العدالة ويسعى إلى نشرها .. ! وبين مطرقة اللا عقل وسندان العاطفة ينبغي للإنسان البسيط-حتى لا يقع فريسة جهله وجهلهم- أن يعي حدود الثقافة والمثقف ومطالباته، فالأمر لا يتعلق بمثقف (عضوي أو ملتزم، أو داعية، أو تبريري، أو فوضوي عدمي، أو ناقد انتهازي)، المسألة أكبر من فروق بينها، الأهم ما يتعلق منها بمناقشة الفكرة، إذ الظروف التي تمر بها الأمة العربية الْيَوْمَ من محاربة السلطة بكل أشكالها، ومحاولة تفكيكها من الداخل، والاقتراب حينها منها، والانحسار حينا آخر؛ مما أظهر لنا ما يمكن أن نطلق عليه (المثقف الهارب)، إما في ظل السلطة بعدما ألب عليها، أو خارجها بعدما أمن حدوده، ولَم يتضرر سوى الإنسان البسيط؛ لذا كان من الأمثل الوعي بحقيقة الثقافة، والحقوق، وتمثل طرقها السليمة والسلمية، بعيدا عن السلبية التي ظاهرها شجاعة وباطنها صراع ودموية، وفتنة وتمزق للإنسانية…!
مصطفى قشنني (شاعر وكاتب وإعلامي مغربي): متى يعلنون عن وفاة المثقف العربي؟!
إن إشكالية المثقف والسلطة من الإشكاليات التي تطرح مدى استقلالية وحيادية هذا المثقف عن السلطة أو خنوعه وانكساره أمام اغراءاتها واصطفافه أمام لذتها وحلاوتها المغرية, وليس ثمة هدية ثمينة يمكن تقديمها للسلطة خير وأفضل من نخبة ثقافية هجينة وفاسدة ومنبطحة تسوغ للطغاة طغيانهم, وتكرس الولاء الضال, وتنتصر للظالمين, وبالتالي تحافظ على مصالحها وامتيازاتها, داخل هرم الدولة من خلال احتلالها لمواقع تحقق لها الرقي المادي والرفاه الاجتماعي على حساب وظيفة المثقف ومسؤوليته المجتمعية, المتجسدة في تطوير الوعي الجماعي للمجتمع وملامسة قضياه المصيرية, وإن استدعى واقتضى الأمر النزول إلى الشارع, لأن المثقف ليست وظيفته هي الاختباء وراء (فنطازيات) النصوص والكتابات والتواري في دهاليز وأقبية العوالم اللغوية المغلقة والاعتصام بأعشاش اللقالق فوق سطوح وأبراج وصوامع المجتمع, والنأي عن الإشكاليات الحقيقية والكبرى للمجتمع, والغوص في ما لا ينفع ويجدي الناس. وأعتقد أن الوضع الكارثي الذي أصبحت تعيشه الثقافة العربية الآن,انعكس سلباً على تطور المجتمعات العربية, بحيث أصبحت-الثقافة- رهينة للفاعل السياسي فهي لم تعد تأتمر إلا بأمره ولا تنتهي إلا بنهيه, فاختلت الموازين والمعايير, وانتصر العبث والرداءة, لأن السياسة هيمنت على كل شيء وأزاحت المثقف من عليائه وحل محله (الأخ الأكبر) أي سلطة السياسي, بالصورة التي رسمها جورج أورويل في رائعته الروائية 1984. نعم، إذا كان المثقف هو ضمير الأمة, والمنافح عن قيمها ووجودها, فإن هذه الوظيفة أو المسؤولية إذا كانت فعلاً راسخاً في منتصف القرن العشرين, حيث ساهم –المثقف- في نشأة حركات التحرر العربي بعد فك الارتباط بالاستعمار وتبلور الفكر النهضوي الحداثي القومي التقدمي, فإنه ما لبث أن اضمحلت –وظيفة المثقف-وانطفأ بريقها وتوهجها بعد بروز كيانات وطنية مستقلة تمت الهيمنة عليها من قبل أنظمة وكيانات تسلطية طغيانية –في الكثير من الأحيان-فتحول المثقف إلى تابع ومكمل لطروحات السلطة, أو المتفرج على الأزمة وعلى حالة انهيار الأمة العربية مع النكبة والنكسة, أمام التفوق الصهيوني المدعوم من طرف الإمبريالية العالمية وما تبع ذلك من تراجع خطير لأدوار المثقف, الذي أصبح يعيش أزمة إنسانية وإحباطاً وجودياً على مستوى ذاته ومجتمعه, في ظل (تغوّل) واستقواء شرس للسلطة السياسية, مجسدة في الحاكم الطاغية والسلطة الكهنوتية ممثلة في فقهاء الظلام والرجعية, وما صاحب ذلك من أزمات على مستوى الحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية وانسداد الأفق في بناء المجتمعات الحداثية المتحررة من قهر وإكراهات السلطة. مما دفع بالمثقف إلى الانزواء وعدم الفعل والرضوخ بدعوى أن المجتمعات العربية جاهلة ومتخلفة و(ماضوية) ولا يعول عليها في النهوض, وبالتالي فلا يمكن مسايرتها في ذلك إلى ما لا نهاية. من جهة أخرى فإن المثقف العربي –المستقل- بات هو أيضاً يعيش أزمته الخاصة به بسبب انحسار مكانته ووضعه الاعتباري داخل المجتمع, ومحاصرته وملاحقته والتضييق على حريته من طرف الأنظمة التسلطية العربية, ناهيك عن الشرخ الذي أصبح يعيشه هذا المثقف في مقابل المثقف في الضفة الأخرى, إلى درجة أصبح هو أيضاً (أي المثقف العربي) في حاجة إلى من يسانده ويساعده على تجاوز محنته وخواء وضحالة موقعه, وتلاشي دوره واضمحلاله وافتقاده إلى بوصلة الفعل المؤثر في واقع الناس وحيواتهم. والسؤال الذي بات يطرح نفسه بحدة هو: متى يعلنون عن وفاة المثقف العربي؟! علماً أن هذا المثقف هو أصلاً توفي منذ زمان مضى وإكرام الميت عدم تحميله ما لا يستطيعه وما لا يطيقه!!
د. أشرف أبو السعود (خبير العلوم السلوكية وتنمية المهارات الحياتية- مصر): تبّاً لأمة جعلت نجومها وصفوتها ونخبتها بين أقدام لاعبيها.
مُصيبة العرب بسبب ما يدَعُون أنهم مثقفون.. أنا بطبيعتي أرفض التعميم لذلك فأنا أتحدث عن فئة معينة يَدعون أنهم مثقفون. بادئ ذي بدء فإنه في زمن الفضاءات المفتوحة، وتدهور المستوى الإعلامي في الوطن العربي – بما فيه من فضائيات تروج لكل تافه – فإنه ليس معنى أن أي شخص قرأ كلمتين أو قرأ كم كتاب فإن هذا لا يعني أنه مثقف. نرى على الشاشات والفضائيات العربية ما يطلقون عليهم اسم (المثقفين) وعندما نسمع ما يقولون، أجد أنهم مشوهون عقلياً ونفسياً. إن ثمة معايير عالمية يتم من خلالها الحكم على مدى تقدم أو تدهور المجتمع، ومن أهم هذه المعايير هو ما يطلق عليهم اسم النخبة أو صفوة المجتمع من مُفكريه وأدبائه ومثقفيه، وكارثة العرب أن كثير من مثقفيهم يصفقون ويطبلون لنظم الحكم التي تحكم دولهم مقابل الحصول على مكاسب ومناصب ومنافع ومصالح مادية. إن المثقفين والمفكرين هم عقل الأمة والمجتمع وعندما يصبحون (مطبلاتية) فهنا تكون المصيبة في عقل المجتمع وعقل الأمة. إن المثقفين والمفكرين المشوهين عقلياً ونفسياً هم الذين يتصدرون وسائل الإعلام، أما المفكرين الشرفاء أصحاب الفكر الحرّ والرأي المستنير نجد أكثرهم في غياهب السجون والمعتقلات. كم من نكسة وكم من نكبة حلّت بالمجتمع العربي بسبب نفاق وكذب وتضليل وتطبيل مُنافقيه؟! وكيف يرتقي المجتمع العربي بالفكر والعقل وحكامه يزرعون وينشرون الجهل بين الناس ويحيطون أنفسهم بأشباح يقولون عنهم أنهم مثقفين (يطبلون) لهم لكي يظلوا على كراسي الحكم حتى الممات يتحكمون في مسار أمة ومصير وطن؟! لقد انتشر في العالم العربي ما يسمون بـ(علماء السلطة والسلطان) لكي يرضى الحاكم عنهم ويوزع عليهم المزايا والمناصب والأموال. فلننظر ولنتأمل الإعلام العربي والشاشات العربية التي هي من المفروض أنها تعكس نبض الأمة ووعيها وثقافتها وحضارتها، نجد أن أمة العرب جعلت نجومها وسادتها أجساد الراقصات والممثلات، وأقدام لاعبي كرة القدم ولم نجد قناة واحدة تقدم أصحاب الفكر الحرّ والمستنير وأهل العلم والخبرة، تبّاً لأمة جعلت نجومها وصفوتها ونخبتها بين أقدام لاعبيها، وأجساد راقصاتها وراقصيها وممثليها، وأصحاب الفكر المشوه المعتوه ، تبّاً لأمة جعلت من أهل الفساد والنفاق والانحراف نخبتها وصفوتها، تبّاً لأمة غاب فيها العدل وساد فيها الفساد والظلم، تبّاً لأمة أصبح فيها الحق باطلاً والباطل حقاً بفعل ما أسمتهم صفوتها ونخبتها، إنهم صفوة العار ونخبة الانكسار والفضيحة. ولإنصاف الحق والحقيقة أقول أن هناك في الأمة العربية أصحاب فكر مستنير شرفاء ونبضهم وفكرهم وضميرهم حرّ، ولكنهم قليلون جداً وغير مسموح لهم بالظهور في الإعلام خوفاً من توعية الشعوب فالحكام يريدون شعوب جاهلة لكي يحكموها ويتحكموا فيها .
د. أحمد الخميسي (قاص مصري): لدينا كمثقفين ميلاً لجلد الذات
بداية أقول إن لدينا كمثقفين ميلاً في بعض الأوقات لجلد الذات، يظهر هذا في تعميم صورة \”المثقف العربي\” بصفته شريحة واحدة متجانسة تركب عربة السلطة كلّ في بلاده خلال الأزمات، أما الحقيقة فهي أن المثقفين كانوا دوماً –ومازالوا- يمثلون تيارات متنوعة ومواقف مختلفة من شتى القضايا. وقد شهدت كل المنعطفات التاريخية والأزمات الكبيرة في عالمنا العربي أكثر من موقف تعبيراً عن تعدد التيارات الفكرية الثقافية، وكما كان هناك دوماً مثقفون في حظائر السلطة، كان هناك أيضاً مثقفون متمردون لم يشترِ أحد أقلامهم أو ضمائرهم. في نهاية الأمر فإن المثقف لا يصنع الحروب ولا يخلق الأزمات السياسية، إنه على أقصى تقدير قد ينحاز إلى جانب أو آخر، لكن يظل هناك دائماً مثقف لا يخون ضميره. أعتقد أن المقصود بالمثقفين الذين سقطوا في وحل الدولة القطرية هو الإعلاميين، أي الذين يعملون في صحف ووسائل الإعلام الحكومية، وأولئك عملياً موظفون لدى الدولة، وقد قرأت وسمعت من الكثيرين منهم زمن الرئيس مبارك أجمل تقريظ في عهده، وسمعت منهم بعد ذلك أشنع السباب في مبارك!! وأولئك عادة أناس بلا موقف، يضخمون كلمات السلطة كما تفعل الميكروفونات لا أكثر. أما التقارب والوعي العربي المشترك الذي تنشره الثقافة فإن الأعمال الأدبية والفكرية الثمينة تقوم بذلك الدور، ويكفي أن أقرأ لكاتب عظيم من بلد عربي غير بلدي لأشعر بكل الوشائج التي تربطني به رغم الطلقات النارية التي تدوي من بنادق السياسيين والحكام. والمثقف العربي موجود بالقطع، وله دوره، بل وتأثيره وإن كان ذلك التأثير قاصر على دائرة الوعي. ومن الإجحاف أن ننفي وجود المثقف العربي لأن تأثيره محدود بحكم طبيعة أدواته وهي الكلمة والمقال والتعبير الأدبي والفني. وهنا أقول: طبعاً يوجد مثقف عربي، وإلا من يكون الطاهر وطار؟ ومن يكون محمد الماغوط؟ وعشرات بل ومئات من الشباب الكتّاب أصحاب المواقف النزيهة، والأعمال الأدبية والفكرية المؤثرة، وكيفما كان الموج الذي يجتاح السفينة عالياً فإن ذلك لا يعني أبداً أننا لسنا على الخريطة. المنطقة العربية تواجه مخططاً استعمارياً بالغ القسوة يهدف إلي تدمير دولها وجيوشها والزج بها في حروب أهلية، ولا تجد الأنظمة العربية الحاكمة في نفسها قوة أو قدرة على التصدي لذلك المخطط، فهل نلوم المثقف هنا؟ وهل نوجه اللوم للدبابات وتمويل فرق الإرهاب من الخارج وإشعال الحروب.. أم نصب غضبنا على صوت الأغاني .. لمجرد أنه صوت خافت؟!
إبراهيم يوسف (شاعر وروائي سوري): السوشيال ميديا احتلت دور المثقف ..
لا يمكن النظر إلى الدور الذي يؤديه- المثقف- الآن- في المنطقة عموماً- إلا من خلال تشخيص واقعه، وموقعه، في آن واحد. كما أنه وقبل كل شيء لابدّ لنا من معرفة أن عوامل كثيرة قد ساهمت في تقليص الدور الراهن، المرهون به، منها-بحسب المصطلح التقليدي- ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي. ونجد في مطلع هذه التحولات التي تمت إقصاء دور المثقف، وتقزيمه، وتشويهه، والاستغناء التدريجي عن دوره، إلى أن بلغ حداً غير مقبول البتة.
قبل كل شيء، لابد من الإشارة إلى أننا نعني بـ\”المثقف\” هنا، منتج الثقافة، ويدخل في هذا الإطار: الكتاب، والشعراء، والنقاد، والمفكرون، والأكاديميون….إلخ، هؤلاء الذين كانت لآرائهم التي يبدونها تأثيرها المهم. إذ طالما كان يستمع من هو في مركز القرار لما يبدر عنهم، كما أن هناك أوساطاً واسعة تتأثر بما يطرحه هؤلاء جميعاً، كما أن أسماء كثيرين من المفكرين ارتبطت بثورات الشعوب، واعتبروا مرايا أهلهم، والمجسدين لأحلامهم، وتطلعاتهم.
بدهي، أن من بين العوامل الكثيرة التي كانت وراء تدهور دور المثقف، وتلاشي مكانته، هذا الانتشار \”ما بعد الحداثي\” لوسائل الإعلام، ومن بينها \”وسائل التواصل\” أو (السوشيال ميديا)، إذ باتت هذه الأدوات تحتل دور المثقف، بعد أن غدا الإعلامي مجرد مترجم لما يملى عليه من قبل المؤسسة التي تمول هذه الوسيلة الإعلامية، أو تلك، إلى الدرجة التي يمكننا أن نقر بحقيقة زوال دور الإعلامي ذاته، وحيلولة المنبر الإعلامي مكانه، ولهذا موقعه النقاشي خارج هذه الوقفة. بعد هذه المقدمة التي لابدّ منها، فإنه نستطيع التأكيد أن الدور الجماهيري للمثقف بات يشرف على الانتهاء، إذ لا نكاد نجد أية أهمية لما ينتجه المثقف في الحقل المعرفي، فقد غدا خطابه أحادي البعد، موجهاً إلى صنوه، بعيد انحسار دائرة تأثيره. هذا الواقع الذي آل إليه دور المثقف دعا صاحب القرار ليغدو غير مبال به، إلا في حدود تبعيته له، ومن هنا فإننا لنجد أن- اتحادات الكتاب الرسمية- في العالم العربي هي المؤسسات الأقل اهتماماً، وتأثيراً، بعد هذه التحولات التي جرت، من دون أن ننسى الدور السلبي للمهيمنين على هذه المؤسسات الذين طالما حاولوا جعلها \”ديواناً\” لتسويغ دور الحاكم بأمر الله، وكيل المديح له، والتسبيح باسمه، وحمده. من هنا، فقد بات واضحاً لدى جميعنا أن هناك انحساراً، بل تراجعاً في دور المثقف، على نحو عام، ولم يعد ذلك الصوت المدوي الذي كان يؤدي دوره الكبير، وهذا ما يعود لأسباب كثيرة في مطلعها تشويه صورته من قبل السلطة السياسية الحاكمة، لاسيما عندما لا يكون ممن يضربون بـ\”سيفها\” ولا ممن يصلون خلف إمامها، و لا ممن يجلسون على مائدتها، وفي هذا كله إجهاز على الدور الاستناري التوعوي المتوخى من المثقف.
لقد غدونا الآن- لاسيما في العالم العربي- في مرحلة ما يمكن وسمه بـ\”موت المثقف\”،إذ ثمة هوة سحيقة تظهر لنا إن قارنا حضور المثقف الراهن بمثقف مرحلة تأسيس الدولة التي ظهر فيها الكثير من المثقفين الذين ساهموا في خلق الوعي والمعرفة، والتأثير على القرار السياسي، بدلاً من الخضوع له. ثمة خط تنازلي يمكننا تتبعه يبين (موشوره) مدى تقهقر دور المثقف الراهن، إذ ما قورن بالدور النقدي لمثقف الأربعينيات والخمسينيات وحتى بداية الستينيات في القرن الماضي، إذ كان خطابه فعالاً، ذا سطوة، ومسموعاً، ولعل من بين الأسباب الذاتية في هذا المصير الدرامي لدور المثقف هو قبوله بتخليه عن دوره النقدي الصارم. وفي ما يتعلق بالفضاء التطبيقي للسؤال- فإنني أرى إضافة إلى تشخيص تموقع كل مثقف، في حيزه الجغرافي، السياسي، المكاني، ثمة حدوداً لدور المثقف لم يجرؤ على تجاوزه، بسبب شبح التخوين الذي يهدد به، وإلا فإنه كان من اللزام مناقشة تشريح جوهر أي خلاف، بشجاعة، لاستعادة هيبة خطابه، وحضوره، والمساهمة في صناعة القرار العام، بدلاً من الدور التسويغي الذي يؤديه مكرهاً. ثمة سبب رئيس لانزلاق المثقف إلى مهاوي الدوائر الضيقة، ومن بينها استلابه العاطفي، والخلل البنيوي في ثقافته التي تشربت بقيم الانتماء القبلي، وتدرجاته، ناهيك عن أن حدود الدولة القُطرية باتت تجعل أي انحيازاً لما وراءها خيانة، كما أن نقد كل ما ضمن دائرة الانتماء خيانة، إذ إننا هنا أمام مثقف غير حرّ، بل يمكننا الحديث عن كائن ثقافي غير مكتمل الثقافة، نتيجة استلاب حريته، هذه الحرية التي هي الشرط، والعماد، في إنتاج أية رؤية ثقافية صائبة! من خلال وجهة نظري، فإنني ما زلت أرى أن هناك- مثقفاً- له رؤاه، مثقفاً قادراً على أداء الدور المعول عليه، إلا أن هذا المثقف مكبل، أسير، غير قادر على ممارسة دوره الوظيفي، نتيجة استبداد السلطة وعسفها، هنا وهناك، إذ من بين مفردات هذا الاستبداد: عزله، وتخوينه، وإعلان الحرب على لقمته، بل و حتى التهديد بتصفيته، بعد أن غدا الاعتقال، بعد إلصاق أية تهمة كاذبة به أمراً مألوفاً. ولابد- هنا- من التأكيد أن الكثيرين من المثقفين يقبعون- الآن- وراء القضبان، ومن بينهم مجهول المصير، من دون أن نجد من يقف إلى جانبه، على نحو فعلي، ناهيك عن أساليب الضغط، والبطش، التي لما تزل سيفاً مسلطاً على رقاب كل من يجرؤ على مواجهة الاستبداد! أجل، ما زلت أرى أنه هناك- مثقفاً- حقيقياً، وأنه قادر على أداء دوره، بالرغم من الضجيج الكوني الذي بات يخنق كل صوت نظيف، منذ أن انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي، وبات في مقدور أي من سكان العمارة الكونية أن تكون له-وسيلة اتصاله- أو حتى وسائل اتصاله- المتاحة له، كما هي متاحة، بالقدر نفسه لأي مفكر، أو فيلسوف. هذا التلوث البصري، الذي نعاني منه حول هذه العمارة الكونية إلى ما يشبه بـ\”مطحنة\” تكاد تضيع فيها الأصوات الحقيقية، إلا أن هذه الأصوات لما تزل موجودة، وعلينا الاستماع إليها، وتهيئة المناخ اللازم للاستماع إليها، وتحصينها، بل وتحرير حرمتها، ووضع الضوابط اللازمة لممارسة دورها المطلوب.
أحمد ضحية (روائي سوداني): هل المثقف العربي ضمير أمته؟
أظن أن السؤال الجوهري: هل المثقف العربي بالفعل هو ضمير شقي لأمته؟.. بكل ما تحمل مفردة (أمة) من محتوى (دلالي) و(معرفي)؟!.. في ظني، الإجابة عن هذا السؤال، تفسر المواقف الضيقة للمثقفين العرب. وهنا يجب أن لا نحصر مفهوم (مثقفين) على أولئك الذين تلقوا تعليماً مدنياً أو غيره، وتحصلوا على شهادات عليا! إذ أشمل به أولئك الذين صقلتهم تجارب الحياة، وأدركوا المعنى الإنساني العميق، لقيم (كالحق والعدل والحرية) بل و(الاختلاف) كتنوع في الآراء ووجهات النظر، و(الخلاف) كتباين تام لوجهات النظر والآراء، بحاجة للتجسير، وليس التعميق الذي يفضي به للفجور في العداوة والقطيعة! ودون شك كل هذه القيم نقيضة لـ(الفساد)! لذلك عندما تنبني (المواقف) على (المصالح) وليس على مبادئ (الحق والعدل وخير إنسان الأمة دون تمييز) يتم التورط في شبكة الفساد التي تنسج كيان السلطة!
في تقديري المحدود أن هذه هي الأزمة الحقيقية التي يعاني منها المثقف!
جميل هذا الدفع نحو رؤية الاخر ، والنظر البه بعين امه .. ولا للتموحد والتكرس خلف الذات ةالانا والوطن .
كانت الدكتورة اسماء .. اعطت جمالا مسكوبا يدفع الانسان الى العقل في القرار