المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

مراتب ألوجود و عوالمها: ألقسم آلثّانيّ

عزيز حميد مجيد

مراتب الوجود بآلنسبة للأنسان تتحدّد أفقها بحسب المعيار العقلي لكل سالك عارف عبر آية الآفاق التي ذكرها الباري تعالى في سورة (فصّلت/53) من القرآن , و هي عبارة عن مقدار المدى الكونيّ لأفق الناظر عبر العقل الكُلّي للسالك إلى مدينة السلام.

يُعتبر فيثاغورس الفيلسوف ألوحيد وألأوّل ألذي حدّد الفرق بين مرتبتين في الفكر الأنساني, بين مرتبة (الفيلسوف) ومرتبة (الحكيم) ولم يتوسّع في ذلك تفصيلا.. سوى أنهُ قام بتقديم ألحكيم على الفيلسوف درجة, على إعتبار ألأوّل (ألفيلسوف) يدرس ويبحث قبل ذلك و يُفَعّل ما أنتجه وكتبه (ألعارف ألحكيم) الذي نادراً جدّاً ما يتغيير تقريراته لأنّ العلوم الكونية, التي يدوّنها عادّةً ما تكون (لَدُنّيّة – غيّبيّة) – أيّ من الله تعالى بشكل مباشر أو غير مباشر, أي عن طريق الإشراق أو الرّؤيا أو ربما الوحي الملائكي و كما حصل مع الخضر واليوشع والبسطامي وغيرهم, أو تكون العملية حصوليّه تتحقّق عن طريق الكسب والسّعي والتعبد والترويض وكبح جماح النفس والمواظبة على النوافل حتى يحصل الكشف و الشهود عنده و يصل العرفان أي كشف الحُجب عنده, والعامل المهم والمؤثر في تحقيق ذلك أيضا إلى جانب ما ذكرنا هي آلدّراسة وكسب التجربة والملاحظة وآلتّفكر و التأمل العميقين, ونحن في (فلسفتنا آلكونيّة) فصّلنا مراتب المعرفة العقليّة بِبُعديه (الظاهري و الباطني), أو (العرضي والجوهري) بحسب المراحل السبعة ألتالية ضمن تعريفات مُحدّدة وعلميّة مبرهنة في بحث(فلسفة الفلسفة الكونيّة) أو ما سُميّ بـ (نظرية المعرفة الكونيّة)(1), والمراحل السبعة هي :

[قارئ – مثقف – كاتب – مفكر – فيلسوف – فيلسوف كوني – عارف حكيم].

هذا المسير الذي يقتضي زمناً طويلاً قد يكون لآخر العمر لبلوغ المنشود بعد شرط تحقّق الطلب أولاً ثمّ العشق في وجود السالك لعبور باقي المحطات الكونية .. التي مجموعها (سبعة مدن), أو مدن العشق السبعة والتي يجب عبورها بأمان وكما عبّر عنها العارف النّيشابوري من خلال قصّة رائعة موجودة في كتابه المعروف بكتاب العشق للعطار النيشابوري, وآخرين إختلفوا في تحديد عدد تلك المراحل, منهم كآلشيخ الأكبر (إبن عربي) لخصها في 26 مرتبة يجب عبورها لوصول مدينة السلام والسعادة(2) كآخر مرتبة, و كذلك الشيخ الأنصاري قسّمها إلى 52 مرتبة تيمّناً بعدد الركعات اليوميّة الواجبة و المستحبة, وهكذا العارف الحكيم محمد باقر الصدر حدّدها بإختصار بليغ بمرتبتيّن هما؛ [معرفة الله ثمّ حُبّه (عشقه)], وهناك مراتب مختلفة لعرفاء آخرين وردت في مراتب فلسفتنا الكونيّة.

وبوصول السالك المرحلة السابعة يتميّز وينال صفة (العارف الحكيم)(3), و تعني بلوغه المعرفة الذاتية والرؤية الكونيّة الشّهودية عن طريق آيات النفس بعد تطهيرها, و قد عرضنا في القسم الأوّل من هذا البحث المراتب الوجوديّة التي عبَّر عنها الباري بآلرّؤية الآفاقية – الوجودية وكما ورد في آلقرآن الكريم بقوله تعالى :

[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصّلت/53).

فـ (آلقارئ) : هو آلذي يُريد و يُقرّر ويقرأ ما كتبه ويكتبهُ مختلف الكُتّاب و المفكريّن والفلاسفة والعرفاء بمقدار إستيعابه لآفاق آلمراتب في الأفقين بعد هضم المفاهيم المطروحة والتي تتبلور عنده بمرور الزمن ليكون بسبب القراءة مثقّفاً لينال بعد عبور المراتب الكونيّة عارفاً قريباً من الله تعالى, أيّ يرتقي لمرتبة العارف الحكيم وهي ذكر مبارك من لدن حكيم خبير.

أمّا (آلمثقّف): فهو الذي يقرأ ثمّ يصنّف ويُبوّب ويُؤرشف ثمّ يُدقّق في الكتابات والنّصوص و آلآراء ويضرب بعضها ببعض و ربما يميل لإختصاص أو إتجاه معيّن أكثر فيركّز عليه أكثر من غيره, وقد يحصل على درجة الدّكتوراه فيها ليمتهنها ويكون أستاذا في المدرسة أو الجامعة بحدود إختصاصه بحيث يمكنه ان يكتب وينظر فيها فيما بعد, لكنه ليس بآلضرورة أن يكون مثقفاً كما ساد بين الناس, فهناك فرق كبير بين الممتهن لأختصاص علمي وبين المثقف السالك لله.

أما (الكاتب): هو الذي يعتمد بكتابة مقاله أو موضوعه أو ربما كتاب معيّن في إختصاصه؛ على مطالعة مجموعة من البيانات والمصادر والمقالات والأفكار والنصوص ذات العلاقة بآلنقطة أو آلموضوع المطروح الذي يريد تسليط الضوء عليه أو كشف موضوع جديد ليخرج بمقالة مُرتّبة و مقبوله كتقرير لتغيير الواقع نحو آلأفضل ..

وعادّة ما .. لا يذكر للأسف أغلبية الكُـتّاب, خصوصاً غير ألنُّزهاء منهم؛ المصادر التي يقتبسون منها أو يعتمدون عليها في مقالاتهم وتقريراتهم لظنهم آلخاطئ بأنّها ستُسجل بإسمهم و ترفع شأنهم, وأنّ ألقُرّاء لا يكشفون أمرهُ أو ما تمّ نقله من الآخرين أو المصادر الأخرى, بينما الحقيقة تظهر لا محال ولو بعد حين .. ناهيك عن إنّ المفكريين و الفلاسفة والحكماء الذين يعرفون ذلك تفصيلاً لا تفوتهم مثل تلك السرقات والألاعيب لأنهم أمناء على الفكر وينظرون بنور الله!؟

على أيّ حال يُمكن للكُتّاب أن يكونوا جديرين ومن طبقة المفكريين الأُمناء بنقل المعارف وكشف الأمور للناس بدقة ونزاهة وشفافيّة لتنويرهم بآلحقائق ألوجودية التي يصلوها.

أمّا (ألمُفكّر): فهو آلذي يقوم بموازنة المقالات ألمعتبرة و تبويبها وتصنيفها إعتماداً على رؤى بعض الكُتّاب الأكاديميين المعروفين والعلماء ألذين يُوثق بهم و بنظرياتهم لكونهم يعتمدون الصّدق و النزاهة و التقوى وذكر المصادر بكل أمانة و صدق في كتاباتهم لدراسة موضوع معيّن وبآلتالي الخروج برؤية جديدة مفيدة للعالم يُعتبر ضمن حيز الأبداع أو مُقدّمات الأبداع ليدخل مجال الفلسفة بشكل طبيعي ليؤسس مدنيّة سليمة وكاملة تحقق سعادة المجتمع ضمن البعدين الكونيين اللذين تمت الأشارة لهما.

أمّأ (ألفيلسوف): فهو آلذي يدرس ويُقيّم الرؤى التي توصّل إليها المُنظّر – آلمُفكّر ويُقارنها و يُقييمها ويُمحّصها للوصول إلى تقنين رؤية جديدة ومُتقدمة عن ذلك يمكن إعتبارها مميّزة أحياناً بل ومبدعة, لتكون منهجاً وقانوناً ورؤية معتبرة وجديدة للباحثين والأكاديميين في مختلف المجالات بحيث يتعيّين عليهم وضع كل الآفاق الأرضيّة – المادية والسماويّة – الرّوحية تقريباً في مجال وإطار فكره وتنظيراته.

أمّا (ألفيلسوف الكونيّ): فهو آلذي يبدأ من النقطة التي إنتهى إليها الفلاسفة السابقين في تقريراتهم عبر التأريخ طبقاً لنظريّة معرفيّة إعتمدها كنهج ليتميّز بها عن الجميع, ثمّ دراسة ومقارنة النتائج الفيزيائية والميتافيزيقية والنفسية والرّوحية والطبيعيّة مع آلأبعاد (الكَوانتونوميّة)(4) ليخرج بنظريات جديدة ومُبدعة في مجال المعرفة الكونيّة, وهؤلاء عادّة ما قلة قليلة جداً قد لا يبرز منهم في كلّ زمان و مكان وقرن سوى بعدد الأصابع, ليكون عارفاً بزمانه ومكانه ومستقبله بعد نيل الحكمة.

و أخيراً (ألعارف الحكيم): وهو آلذي يربط النظريات (الكَوانتونومية) الكونيّة التي توصل لها الفلاسفة الكونيّيون لإنتاج نظريّة كونيّة جديدة ثابتة كآية قرآنية لكنها من قبل الأنبياء ألأرضيون, حيث تنتهي عندها مسالك المعرفة لتكون بمثابة القانون (الدّستور) الذي تَعتمده المؤسسات والنُّظم والعلماء والفلاسفة كأساس لرسم وتحديد القوانين والمناهج والخطط الستراتيجيّة في الجانب الحضاري والمدنيّ لبناء و إحياء رسالة الأنسانيّة.. لكن لا كهذه الحضارة القائمة على العنف والقتل والحرب والتسلط وآلفساد أو تلك “الحضارات” القديمة التي أستُعبِدَ فيها البشر؛ بل عبر النهج الكونيّ ليسود السلام و الأمن والعدالة بعد إنتقال الناس من (الحالة البشريّة) إلى (الحالة الأنسانيّة) ثم (الحالة آلآدميّة) أخيراً كأسمى وأعلى مرتبة وجوديّة لا يصلها إلّا المتواضع لله والذي يكون للمخلوقات كأديم الأرض لا يُريد فيها علوّاً ولا مقاماً ولا فساداً, بل يكون أساساً للآخرين ليثمروا, وتلك درجة لا ينالها إلّا ذو حظٍّ عظيم.

والمرتبة(الحالة) الأخيرة.. تعني نيل الحِكمة التي بآلمناسبة لا تتحقّق بسهولة ولا تستقر إلا للواطئ كما الأمطار تستقر فقط في المنخفضات لا المرتفعات, وهكذا الحكمة بعد تناسبها وصيرورتها مع (العشق) الذي يستقر في النفوس المتواضعة المنخفضة لتحقيق الوحدة والبناء الحضاري والمدني – العمراني والتكنولوجي .. لأنّ العارف الحكيم يضع بآلحسبان, ثلاث مسائل أساسيّة في نظره لتحديد الحُكم وإصدار القرارات و المناهج بقوة التواضع و ألمحبّة الألاهيّة, وهي:

معرفة ألجَّمال؛ طلب ألعِلم؛ عمل ألخير دون إنتظار الجزاء.

وبإجتماع تلك المناهج وإعمالها تتحقق سعادة الأنسان والمجتمع والناس أجمع وبآلتالي يتحقق الخلود في الوجود.

وأبداً لن يموت الذي أحيا قلبه بآلعشق ..

إنّهُ مؤكّدٌ خُلودنا في هذا آلوجـــــــود ..

ألعارف الحكيم عزيز حميد مجيد الخزرجي

يُتبع …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) للأطلاع على تفاصيل هذا الموضوع الحيوي الضامن لسعادة الأنسان عبر الرابط أدناه؛

download book philosophy of cosmic philosophy pdf – Noor Library

(2) راجع؛ (فصوص الحِكَم) للشيخ الأكبر إبن عربي.

(3) (العارف الحكيم) يحمل معاني عميقة في اللغة العربية والتراث العرفاني الإسلامي, وإليكم معاني هذين الاسمين؛

في الصوفية، يُطلق كلمة (العارف) على الشخص الذي يكون متفرغاً للعبادة ويرتبط بالجانب الروحي, ويسعى الوصول إلى الحقيقة الحقيقة المطلقة كحال أولياء الله و أئمة الهدى المعصومين و بآلتالي يسعى للتواصل والتوحد مع الله عبر التناغم مع حركة الوجود ليصبح فاعلاً إيجابيّاً ومنتجاً لا طفيليّاً كما أكثر الناس إلّا ما ندر, لأن العارف شخصٌ يعيش حالة دائمة من الأنصراف والتوحد مع الوجود نحو الله والتفكير في الحقائق الروحية والكونية، والعارف يُعنى بالحكمة وآلصّدق الذي يعتبر أوّل فصل في كتاب الحكمة, وكذلك الإتقان في الأفعال والأقوال والصبّر والحِلم, ليضع الأمور في مواضعها المناسبة.

(4) العرفان الحقيقيّ الذي نعنيه في (فلسفتنا الكونية), تُمثل البعدين الكونيّين في الوجود؛ أيّ ألبُعد الروحيّ والماديّ معاً, ولا يقتصر على بعد واحد منها كما يعتقد آلآخرون, ألّذين بعضهم يُؤمن بآلرّوحي بشكلٍ أساسيّ و بعضهم بآلماديّ بشكلٍ أساسيّ, لأنّ الذي عَبَرَ المراحل الكونيّة في قراراته وأفعاله يعيش وفقا للحكمة والعدل بآلتناغم مع حركة الحياة والوجود التي يُقوّمها الله تعالى والذي بعدمها ينعدم الوجود كله, لأنّ قيامنا ووجودنا وحياتنا قائمٌ بقيام الله الحكيم الذي يحكم بآلعدل والحكمة في كلّ شيئ.