المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

ـ التاريخ السرّي لرواية الطاعون ـ

بقلم : عبد الغني بومعزة

..\” هناك مماثلة مع طاعون كامو، الدّولة ليست مستعدّة بعد للاعتراف بأنّها مصابة بالطاعون، لكنّها تغزو
المجتمع بأسره، يجب أن نناقشها بصراحة وأمانة .. إذا تجاهلناها فسوف تنفجر في وجوهنا \” . .
ـ بوب موسى ، 1964 ، ـ
***
النسخة الأولى من روايّة الطّاعون من 1941-1942 :
بينما كان كامو مرتبطا بشكل غير رسمي بفرانسين فور، أقام عدّة مرّات في وهران، كان لا يزال يقيم في العاصمة مع عائلته، و في عام 1941، بعد شهر من الانتهاء من كتابة أسطورة سيزيف، كتب في يومياته\” في وهران، اكتب سيرة ذاتيّة تافهة وغير منطقيّة\”، كان يعيش آنذاك في وهران على السّاحل الجزائري مع زوجته وعائلتها، في وقت لاحق من ذلك العام، عندما بدأت الحرب بالفعل، كتب مقالًا غنائيًا عن وهران بعنوان\”مينوتور\”، أو\”L\’Escale à Oran \”، حيث وصف كامو البيئة المبنيّة للمدينة كما لو كانت متاهة، مع وجود حيوان المينوتور في وسطها ممّا يدل على أجواء المدينة التّي يصعب العيش فيها، حيثما تولّي وجهك تشعرك المدينة بالضجر والملل، انطلاقاً من هذه المادة وفكرة كتابة سيرة غير مهمّة وعبثيّة لوهران بدأت تتشكل في ذهنه فكرة كتابة عمل سردي حول المدينة، انّها روايّة الطّاعون، وفي أفريل 1941، أي بعد شهرين من الانتهاء من سيزيف زار كامو وفرانسين أصدقاء يقطنون في ضواحي وهران، اخبرهم الضّيوف بانتشار وباء التيفوس في المنطقة، ممّا أدّى إلى فرض إجراءات الحجر الصحّي الصّارمة، في العام السّابق، تمّ الإبلاغ عن حوالي 2100 حالة إصابة بحمّى التيفود في الجزائر، بحلول نهايّة عام 1941 سيكون هناك أكثر من 13000 مصاب، سيبلغ هذا الرّقم ذروته في العام التّالي مع حوالي 35000 حالة إصابة بالتيفوس، سُمح لأصدقاء كامو بالسّفر طبياً، وخلال زيارتهم لوهران استجوبهم كامو حول الوضع والإجراءات الإداريّة والعسكريّة والطبيّة، وأثّرت هذه الإجراءات على سلوك السكّان، في الشّهر نفسه، كتب كامو في دفتر ملاحظاته تحت عنوان\”عالم المأساة وروح الثّورة\”أو، بالأصح ّ الطاعون أو المغامرة\”، مع ذلك، هناك أسباب للاعتقاد بأنّ كامو كان يفكر بالفعل في استعارة الطاعون قبل هذا الحدث، وكانت هذه الزّيارة مجرّد مصادفة .

ـ 2 ـ

في أواخر الثلاثينيات في الجزائر العاصمة، كان كامو يدير فرقتين مسرحيتين تؤدّيان العديد من المسرحيات الأصليّة وكذلك بعض الأعمال المعدلة والمقتبسة، كان على علم بأفكار أنطونين أرتو*، ولاسيّما مقالته المؤثّرة\”المسرح والطّاعون\”التّي ظهرت لأوّل مرّة في إصدار من المجلّة الفرنسيّة الجديدة(Nouvelle Revue française) في أكتوبر 1934، مرّة ​​أخرى نشر مجموعة من المقالات تصبّ كلّها في نفس التيّمة، فيما بعد سيتعرف على كامو وأستاذه جان جرينيه، هذا الأخير كان محرّرا أدبيا في دار غاليمار التّي نشرت طبعة متوسّطة الحجم عن كتابات المسرح والطاعون وهذا قبل مجيء ارتو إلى الجزائر العاصمة عام 1930، لقد شجّعه غرينيه المحب للأدب والفلسفة على كتابة مقالات للمجلة الفرنسيّة الجديدة طوال ثلاثينيات القرن الماضي، في عام 1934، كان كامو يعمل مع أصدقائه في الجزائر لإنشاء جريدتهم الخاصة والتّي كانت ستسمّى (La Nouvelle Journée)، وكانت مهمّته دراسة المجلاّت الثقافيّة الحاليّة في فرنسا،بما في ذلك المجلة الثقافيّة الجديدة واسعة الانتشار بين الأوساط المثقفة الفرنسيّة في فرنسا والجزائر، إنّه نفس العام الذي ظهر فيه مقال أرتو في هذه المجلة ضمن\”المسرح والطاعون\”، لمحة أدبيّة و تاريخيّة عن الطاعون، بالإضافة إلى وصف طبّي مفصّل لتأثيراته على جسم الإنسان، يجادل أرتو بأنّ الطاعون يؤثر على أدمغة ورئتي ضحاياه، تمامًا كما يصيب المسرح الممثلين في نفس الأعضاء، ويربط أجسادهم على المسرح وأصواتهم في أنفاسهم، المسرح معدّي مثله مثل الطاعون وتمتد هذه العدوى إلى دمج الجمهور في المشهد المُنتَج، بالنسبة لأرتو كان للطاعون، مثل المسرح، وظيفة تنقيّة وتحريريّة، كتب\”مثل الطاعون، يتم عمل المسرح بشكل جماعي لتصريف الخرّاجات\”، كان كامو أيضًا على علم بـبيان مسرح القسوة( Manifeste du théâtre de la cruauté )لأرتو عام 1932 والذي تضمّن أيضًا مقال ورقة سرديّة تحمل عنوان\”مسرح القسوة\” .

أشار كامو إلى مفهوم القسوة في بيانه الخاص لإحدى فرقه المسرحيّة في أواخر الثلاثينيات، كما أن أفكار القسوة والطاعون تكمن وراء مسرحيّة كاليجولا المبنيّة على حماقة هذا الإمبراطور الرّوماني،هذه هي القطعة من الأحجيّة التّي أكملها كامو(النسخة الأولى)عام 1939 كجزء من أوّل دورة أعمال له، مصاحبة لـلغريب وأسطورة سيزيف، النسخة الثانيّة التّي تمّ إجراؤها بعد ذلك واكتملت عام 1945 تتضمن احد المشاهد الأكثر رمزيّة في مسرحية كاليجولا، الفصل الرّابع، يقول الإمبراطور\” حتّى الآن كان عهدي سعيدًا جدًا، لم يكن هناك وباء عالمي، ولا اضطهاد ديني، ولا حتّى تمرّد – لا شيء في الواقع يجعلنا لا ننسى.. وهذا هو، أريدك أن تعرف، لماذا أحاول معالجة جشع القدر،أعني – لا أعرف ما إذا كنت تتابعني – حسنًا [يضحك قليلاً]، أنا أستبدل الأوبئة التّي فاتناها\”، في هذه المسرحيّة(تمثل مسرحية كاليغولا وأسطورة سيزيف ورواية الغريب ما يعرف بدورة العبث لدى كامو)لم يكن الطّاعون غير الإنسان، الإنسان في أشكاله المتوحّشة والقاسيّة، التاريخ اخبرنا بأنّ كاليغولا كان صورة نمطيّة للطاعون البشري، الطاعون عندما يأخذ شكل إنسان .

تمّ العثور على صورة الطاعون أيضًا في أسطورة سيزيف حيث كتب كامو\”سجين بادوفا أفرغه الطاعون وحاصره الفينيقيون، ركض وهو يصرخ في أروقة قصره المهجور، كان عليه أن يدعو الشّيطان ويطلب منه الموت\”، وهكذا، في عام 1941 كان لكامو إطاره واستعارته الرمزيّة، ثمّ في الإدخال التّالي من دفتر الملاحظات تحت عنوان\”الطاعون المحرّر\”، بدأ كامو في رسم أوّل مخطّط لروايته الجديدة عن التمرّد، بتكييف أفكاره السّابقة عن التنوّع والحريّة مع هذا المشروع الجديد، وصف عددًا من الشخصيات كلّ واحدة منها لتستجيب لنفس الموقف لكن بطرق مختلفة، احتفظت إحدى هذه الشخصيات بدفتر يوميات لـأحداث تافهة، يغذّيها كامو بعناصر من دفاتر ملاحظاته الخاصة،الشخصيّة المركزية التّي ظهرت في وقت مبكر جدًا كان أستاذًا في الأدب الكلاسيكي يُدعى لاحقًا فيليب ستيفن والذّي سيدرك أنه لم يفهم أبدًا ثيوسيديدس لوكريتيا(مؤرّخ يوناني) وهو الذّي تحدّث بشكل كبير عن تجربة الطاعون في الأزمنة القديمة، قبل ذلك، كان ستيفن قد قرأ وعلم هذه الأعمال القديمة بطريقة مجرّدة للغايّة، في الوقت نفسه، عمل كامو أيضًا كمدرّس في وهران، سواء في مدرسة خاصة أو كمدرّس خاص، كان نظام فيشي قد فرض أنظمة – امتدت إلى الجزائر المحتلّة – تحظر على الطلاب اليهود دخول المدارس العامة، بالنسبة لكامو كان الأمر عبثيّا، لذا قام بتقديم دروس خاصة لطلاب يهود خلال تلك الفترة،في وقت لاحق من ذلك العام،عندما أجرى أبحاثًا حول أوبئة الماضي – الموت الأسود عام 1342 و إسبانيا عام 1481 – لاحظ كيف أن مثل هذه الأوبئة تاريخيًا، نُسبت لليهود، تلك اللوائح نفسها التّي منعت الطلاب اليهود من المدارس الفرنسيّة فرضت قيودًا على النشر في فرنسا لكلّ من له علاقة باليهود، ناشر كامو في باريس غاليمار الذي قبل نشر كتاب أسطورة سيزيف، أُمر من قبل الرّقابة النازيّة بإلغاء قسم كافكا في الكتاب، لأنّه كان كاتبًا يهوديًا، نُشر هذا القسم بشكل منفصل في المنطقة الحرّة(في ذلك الوقت)في فرنسا الحضريّة، واستُبدل كافكا بنص عن دوستويفسكي .

لم يكن حضور دوستويفسكي في أسطورة سيزيف هو الوحيد والأخير،ففي عام 1941،نشر غاليمار ترجمة فرنسيّة لموبي ديك بقلم هيرمان ملفيل، التهم كامو الرّوايّة، وجد ضالته فيها، وضع مقاربة بين الرّوايّة وأسطورة سيزيف، بحيث اقترح نظرية للخيال من شأنها أن تعكس وتظل متسقة مع أخلاقياته الشّخصيّة المتمثلة في العبث والتمرّد، في حاشيّة سفليّة تمت إضافتها إلى براهين سيزيف، قبل النشر أشار إلى أن فيلم موبي ديك كان بالضبط نوع الخيال الذّي كان يدور في ذهنه، ما جذب كامو بشكل خاص لهذا العمل السّردي هو أنه كان عملاً رمزيًا، وقد قرأها في وقت كان بدأ في الاشتغال على رواية الطّاعون، حتّى أنّه ذهب في دفاتر ملاحظاته في أواخر عام 1941 أو أوائل عام 1942 إلى سرد أرقام صفحات نسخته من موبي ديك حيث نشر ملفيل الرّموز بطريقة اعتبرها كامو أكثر إفادة لمشروعه الخاص، ساعدت قراءة ملفيل كامو على التفكير في الاحتمالات المجازية لتطوّر رمز الطّاعون الخاص به، ملاحظة أخرى، قدّمت روايّة موبي ديك إطارًا سرديًا إضافيًا لكامو، الفصول الموسوعيّة عن صيد الحيتان والتّي تتخلل الفصول الرّئيسيّة في الرّوايّة، بحيث نعثر على هذا التطابق الرّمزي، قدّمت المسوّدة الأولى لـلطاعون والتّي تمّ كتابتها بين سنتي 1941-1942، أرشيفًا وهميًا للوثائق العامة والخاصة التّي تشير إلى مسار الوباء، مقالات صحفيّة و وثائق وأوامر حكوميّة ورسائل خاصة وإدخالات مذكرات وبرقيات، سيؤدّي ذلك إلى تفكيك الفصول في الرّوايّة التّي كانت تركز على الشخصيات الفرديّة وأفعالهم، في وقت لاحق، تمّ إسقاط هذه الفكرة، مع الاحتفاظ بالكثير من هذه المواد، ودمجها في السّرد الرّئيسي، أو استخدامها كخلفية عميقة، في غضون ذلك، ستجبر الظروف كامو على الحصول على أفكار إضافيّة وإثراء من نوع آخر لإشباع روايته وتطوير رمز الطاعون الخاص به .
***

النسخة الثّانيّة من روايّة الطّاعون من 1942-1944 …
أوّل نقطة تحوّل رئيسيّة في تشكّل روايّة الطاعون في نهايّة عام 1942، في أوت، عندما غادر كامو وفرانسين الجزائر لزيارة فرنسا، وأقاما في قريّة صغيرة من بانلييه، بالقرب من\”شامبون سور لينيون\”على بعد حوالي 40 ميلاً من سانت إتيان، في أكتوبر، عادت فرانسين إلى وهران لتستأنف التدريس وكانت الخطة أن يلحق بها كامو بعد فترة وجيزة، كان بالفعل قد حجز تذكرة عودة للجزائر، لكن في 7 نوفمبر، نزلت قوّات الحلفاء في شمال إفريقيا، وفي 11 نوفمبر، ردّ الألمان بإغلاق الحدود الفرنسيّة، وإغلاق المنطقة الحرّة(حكومة فيشي)، ليجد نفسه عالقا ومنفصلاً عن زوجته وعائلته في وهران، وكذلك عن عائلته في الجزائر العاصمة، كتب في دفتر يومياته هذه العبارة الغريبة والموحيّة\” لقد وقعت مثل الفئران!..\”، بعد هذه اللحظة بدأ في التفكير بجديّة في كيفيّة انكسار الحرب من خلال رمز الطاعون، وبالتالي دمجها في عمله الجاري، يحتوي دفتر ملاحظاته على قائمة مراجع من العهد القديم من الكتاب المقدّس، حيث تخلط كلّ آيّة بين\”الوباء\”و\”السّيف\”والوباء والحرب، وفي بدايّة عام 1943 نشر نصًّا موجزًا ​​يصف أحاسيسه الأولى بالنفي،\”المنفيون في الطاعون\”، حيث الألمان جرذان والنّازيّة هي الطاعون، مع ذلك،فإن هذه التطابقات يتمّ استنتاجها فقط في النصّ، وبهذه الطريقة نجا النصّ من الرّقابة النّازيّة، درس تعلمه كامو من تجربته السّابقة عندما طولب بحذف كافكا من أسطورة سيزيف، يفتقر الأيديولوجيون إلى الخيال، ولذلك فهم يعانون من الاستعارة، و يقرؤون مثل هذه الصّور حرفيًا، مع ذلك، حتّى هنا، لم يتم تسويّة هذه المعضلة الفنيّة بإحكام في خيال كامو،مازالت تظهر صورة الطاعون على شكل اضطهاد وظلم، بينما كان يكتب قبل عام أو عامين فقط عن الطاعون على أنّه مغامرة محرّرة، رؤيّة قديمة تتلاشى أمام فكرة ومشهد وبصيرة جديدة، هذا ما يمكن قوله حول نضج ووعي تجربة الكتابة عند كامو، الحقيقة ليست أنّه اختار معنى على آخر، لكنّه احتفظ بهما، وفتح الصّورة في مستوى من الغموض والحيرة والتعقيد .

كانت هذه الفترة من 1942-1944 من الاحتلال النازي وزيادة نشاط المقاومة في فرنسا والتّي غالبًا ما يُنظر إليها على أنّها التجربة المحوريّة التّي تُعلم الطّاعون، حقيقة أنّه بدأ في كتابة الرّواية – وأنّه قد أكمل بالفعل مسوّدة أولى وحدّد اتّجاهها العام – قبل هذه الفترة، لنعد قليلا للوراء و نتحدث قليلا عن تجربة كامو في المقاومة، لماذا؟،لانّ هذا الفعل، أي فعل المقاومة سيلعب دورا مهمّا في عيش تجربة كتابة الطاعون، الأحداث والمواقف التّي عاشها ستطعّم النص بأفكار جديدة وتزيد من متانته السّرديّة وثراءه الفنّي، فالتعقيد الإضافي هو أنّ تجربته في فترة المقاومة السرّية كانت في الواقع محدودة،وفي البداية كانت أكثر هامشيّة ممّا كان يعتقده معظم القرّاء، لم يكن كامو نفسه عضوًا في خليّة نشطة خلال هذا الوقت، ولم يشارك في أنشطة مقاومة كبيرة، على الأكثر، كان لديه أوّل أربع\”رسائل إلى صديق ألماني\”والتّي نُشرت في صحيفة المقامة \” combat\” في جويلية 1943، الرّسالة الثّانيّة التّي كُتبت في ديسمبر 1943 أثناء إقامته في باريس، نُشرت في أوائل العام التالي، ومع ذلك، كان على علم بأنشطة المقاومة وربط نفسه بالعديد من الشخصيات المشاركة فيها، اتّضح أنّ بلدة\”لوبانلييه\”كانت مرتعًا لنشاط المقاومة، بما في ذلك إخفاء اليهود وتهريبهم خارج فرنسا، ربّما كان هذا أحد أسباب ارتباطه لأوّل مرّة بمقاتلي المقاومة في المنطقة، فقد فكّر في طلب مساعدتهم للاستفادة من القنوات التّي يستخدمونها في تهريب اللاجئين اليهود،ليتم تهريبه سراً إلى الجزائر عبر إسبانيا وهذا للالتحاق بزوجته وعائلته، ستلعب الصّدفة دورا مساعدا عندما التقى ب\”اندري شوراقيا\”أحد المقاومين وهو عالم توراتي، ساعد كامو في جمع اقتباسات من الكتاب المقدّس(التوراة والإنجيل)فيما يتعلق بالطاعون والحرب .

استقر كامو أخيرًا في باريس في نهايّة عام 1943، لكن لم يشارك في إدارة صحيفة المقاومة(combat)بشكل رسمي وهذا حتّى عام 1944، من الصعب تحديد متّى بدأت هذه المشاركة على وجه التحديد- أحد ضروريات النشاط السرّي هو محاولة عدم ترك الكثير من الآثار حيث كانت الشّرطة السريّة الألمانيّة\”الغستابو\” تقمع بكلّ وحشيّة من تثبت عليه تهمة المشاركة في المقاومة – لكن الكتابة الأولى ربّما شارك فيها كامو كانت في مارس 1944، قبل ستّة أشهر من تحرير باريس، لهذه الأسباب، بعد الحرب، قلّل كامو دائمًا من ارتباطه بالمقاومة – ليس من باب التواضع الزّائف، ولكن من باب الصّدق – وفي كلّ مرّة يتحدّث فيها، كان عليه الابتعاد عن نفسه والتركيز على الآخرين الذّين شاركوا لفترة أطول من الزّمن، ودفعوا ثمنًا شخصيًا مقابل ذلك، كتب لاحقًا في خطاب تأبين لصديق قُتل بسبب أنشطته\”إذا كنا لا نزال هنا، فذلك لأنّنا لم نفعل ما يكفي\”، الأهم من ذلك، في رواية الطّاعون، تعرّض لهذا الموضوع بشكل مختلف، عندما تحدّث عن فرق الصحّة العامة الغير الرّسميّة الموكل لها مهمة جمع الجرذان الميّتة والتخلّص منها، وقد أوكلت المهمة لشخصية هي تارو، سنجد انّ الرّاوي يقلل من شان مشاركته في عمليّة التخلص من الجرذان النّافقة، بشكل آخر لا رغبة للرّاوي(كامو)في تقديم نفسه كبطل، عدم احتكار دور البطولة على حساب من هم يضحّون بحياتهم لمواجهة الموت،هذا هو السّبب في أنّه لا يقدّم نفسه على أنّه البطل البليغ للغايّة للقيادة والبطولة التّي يعتبرها متواضعة الأهميّة، بشكل ملحوظ، إنّه من نفس القسم من الرّوايّة وهو السّياق المباشر للمناقشة الذي يؤسّس للملاحظات الختامية للراوي\”الرّجال أفضل من سيّئون، وبصراحة، هذا خارج السّياق…\”، لا شيء من هذا يشكّك في قراءة الرّواية فيما يتعلّق بمقاومة الاحتلال النّازي، إنّها ببساطة مسألة إزاحة هذه القراءة من مركزيتها بشكل افتراضي، مع فتح مضمون السّرد لظهور موضوعات أخرى.

يُعتبر الانفصال أحد أكثر الموضوعات إثارة للاهتمام التّي تظهر بقوة كتيّمة في الرّواية، كتب في هذا السيّاق في اليوميات عام 1943\” أفضل ما يميّز هذه الفترة هو الانفصال\”، لقد انفصلوا جميعًا عن بقيّة العالم، سكّان وهران، جميع الشخصيات الرّئيسة تعاني من هذا الانفصال، لقد جاء الطاعون وفرّق بينهم، انّه نفس الانفصال الذّي فرّق بين كامو وفرانسين، انّها تجربة الانفصال عن الجزائر ووالدته وأصدقائه، تمّ عزله في فرنسا حيث يوجد عدد قليل ممن يعرفهم، يمكن القول انهم يعدّون على أصابع اليد و منهم ناشره غاليمار، خلال هذه الفترة، وأثناء مراجعة مسوّدته الأولى، بدأ في التشكيك في أهميّة شخصيّة ستيفن أستاذ الأدب الكلاسيكي، فقام باستبدال هذه الشخصية التّي بدت له غير مقنعة بشخصيّة جديدة،صحفي، يجد نفسه محجوزا بعد إغلاق المدينة، يعيش المنفى والحصار عند إغلاق أبواب المدينة، هذه الشخصيّة التّي سميّت لاحقًا رامبرت انفصلت عن المرأة التّي أحبّها، وسيقوم بكلّ شيء من اجل الخروج، يصل به الأمر للتعامل مع مهرّبين خطيرين لإخراجه خلسة من المدينة المحاصرة، شخصيّة أخرى تعيش هذا الانفصال وهو الطبيب ريو،بعيد عن زوجته لأنّها كانت خارج المدينة للاستشفاء، وضعه يختلف عن وضع رامبرت، ولأنّه يحبّها ويخاف عليها فضّل أن تغادر المدينة قبل أن تعلن حالة الطوارئ ويتم إغلاق المدينة لأجل غير مسمى، هو راض عن هذا، تقبّل الانفصال من اجل مصلحتها، لكن الشخصيات الأخرى، مثل غراند و تارو يتقبّلان الفكرة على مضض، لأسباب أخرى أقل إنسانية، في الإصدارات الجديدة من الرّوايّة، أصبح موضوع الفصل حاضرًا بقوّة مع سيطرة الجانب الهيكلي على السّرد، لتحل محلّ أرشيفات الطاعون الميلفيلي، تمّ عزل أولئك الذين مرضوا وانفصل كلّ فرد من أفراد الأسرة عن الآخرين، الآباء والأمّهات، الأطفال، الأزواج عن بعضهم البعض، تمّ إنشاء معسكرات العزل وحشر فيها حشود كبيرة من المصابين، تمّ الاحتفاظ بالرّجال والنساء في معسكرات منفصلة،. تمّ تمديد الفصل أيضًا ليشمل الموت، مات الناس بمفردهم وأصبحت الجنازات شبه مستحيلة، كان هناك عدد كبير ممن لقوا حتفهم ودُفِنوا في صمت وبدون جنازة​​، بشكل مجهول وبسرعة في مقابر جماعيّة، طوال الوقت، استمر انتشار الطاعون وزاد عدد الموتى، أصبح الانفصال عامًا، شائعا، مقدّر له الحدوث بشكل يومي، الجميع مجبر على العزلة، لقد جعل كامو من موضوع الفصل الموضوع الرّئيسي في الرّواية، في دفتر ملاحظاته يقارن الحياة قبل الطاعون بحالة الطاعون نفسها، والتّي تتحوّل إلى حالة من الوضوح التام\” في وسط عالم غير مفهوم، قاموا بصبر ببناء عالم خاص بهم، بشري للغاية، يتشاركون فيه أيّامهم، والآن ربّما لا يكفي الانفصال عن العالم نفسه، كان الطاعون يفصلهم عن حياتهم وروتينهم اليومي المتواضع..\”، ما أثار اهتمام كامو لم يكن فقط كيف كافح الناس للحفاظ على أنماط حياتهم الجديدة، الصّبر، الصّمت، الألم، الخوف، الحلم، الأمل،العزلة، بل هو صناعة عالم جديد من خلف الطاعون، هذا الفعل\”العظيم\”هو بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة، انّها مقاومة فكرة الانفصال عن الحياة العاديّة، العالم العادي الذي كانوا يعيشون فيه .

***
النسخة الثّالثة من رواية الطّاعون من 1945-1947 :
في عام 1948 – بعد عام من نشر روايّة الطّاعون عقد كامو مؤتمرًا في دير الدّومينيكان، ومن اللافت للنظر أنّه وثني، غير مؤمن وكان يتحدّث إلى مجموعة من المسيحيين التقليديين باسم الحوار، لكن الأمر الأكثر لفتًا للنظر هو أنّه صرّح علانية كيف أنّه كان مخطئًا في حوار سابق مع مسيحي، كان يشير إلى الخلاف مع فرانسوا مورياك منذ الأيّام الأولى للتطهير(عمليات التّصفيات والإعدامات التّي طالت المتعاونين مع النازيين)، حيث قال\”أعطتني الحمّى في خضم ذكرى مؤلمة لاثنين أو ثلاثة من أصدقائي القتلى، أعطتني الشّجاعة للقيام بذلك، ومع ذلك، يمكنني أن أؤكد لكم أنّه على الرغم من بعض التّعبيرات المفرطة من جانب فرانسوا مورياك، لم أتوقف عن التأمل فيما قاله، في نهايّة هذا التأمل – وهذه هي الطريقة التّي أعطيك بها رأيي حول فائدة الحوار بين المؤمن والغير المؤمن– فإنني قدمت هنا لاعترف بكل ما حدث علنًا، أنّه من أجل الأولويات ووجهة نظرنا، فانّه من خلال الجدل استطاع مورياك التغلب عليّ\”،في نفس الوقت تقريبًا – تشير بعض المصادر إلى أنّه كان في نفس مساء هذا المؤتمر في دير الدومينيكان – التقى كامو بأحد معارفه القدامى والذّي كان قد جنده ذات مرّة في شبكة المقاومة، بدا صديقه مترددًا، لكن كامو خاض مباشرة الحديث معه :
ـ هل أنت ماركسي الآن؟ ..
ـ نعم .
– إذن سوف تكون قاتلا !! ..
ـ لقد كنت واحدا من قبل ..
ـ أنا أيضا، لكننّي لا أريد أن أكون بعد الآن .
ـ لقد كنت عرّابي .
ـ هذا صحيح .
.. قال كامو :
– اسمع يا تار، ها هي المشكلة الحقيقيّة، بغض النظر عن أيّ شيء، سأدافع عنك دائمًا ضدّ فرقة الإعدام، لكن عليك أن توافق على إطلاق النار عليّ، فكّر في الأمر .
ـ حسنا، أنا أفكّر في ذلك .
يمكن لهذا الحوار الذّي ورد حرفيًا في دفاتر ملاحظاته يعكس التغيير في المناخ السّياسي الذي حدث في فرنسا بعد التّحرير، خلال أزمة الشّرعيّة السّياسيّة التّي ولّدها التّطهير، كان هناك صراع بين القوميين اليمينيين والشّيوعيين الأمميين، كلّ منهم يحاول الاستفادة من الوضع القائم والغير المستقر لتحقيق أهدافه السّياسيّة الخاصة، ما هو معروف انّ الدّوائر الأدبيّة والفكريّة التّي ارتبط بها كامو محسوبة جميعها على اليسار، بالرغم من انّه كان جاهلا للسّياسة، وأمام الوضع المتّسم بالاستقطاب انضمّ بالفعل لفترة وجيزة للحزب الشّيوعي في الجزائر المحتلة لكنّه طُرد منه في الثلاثينيات، لذلك كان قد تمّ تطعيمه بالفعل ضدّ هذا التيار المتنامي حينها، حتّى في ذلك الوقت، لم يكن أبدًا مؤمنًا حقيقيًا، قبل وقت قصير من انضمامه إلى الحزب في نهايّة عام 1936، كتب إلى معلمه وصديقه ، جان جرينيه:
\” على الرغم من أنّ لديّ اعتراضات على الشّيوعيّة، يبدو لي أنّه سيكون من الأفضل العيش معهم، سأرى بشكل أكثر وضوحًا الخطط وما هي القيمة التّي يجب أن نعلقها على بعض حججهم.. أيضًا، تختلف الشّيوعية أحيانًا عن الشّيوعيين… هناك دائما خط فاصل بين الحياة والإنسانيّة\”،في نفس العام، دافع جرينيه علنًا ضدّ أيّ فرد يخضع لأيديولوجية سياسيّة، في ورقة\”الأرثوذكسيّة ضدّ العقل\”والمنشورة في المجلّة الفرنسيّة الجديدة، حذّر من أيّ فكرة تدّعي أنها في الجانب الصّحيح من التاريخ، على وجه الخصوص، جادل الحزب الشّيوعي وضدّ النظريّة الماركسيّة وضدّ الواقع السّوفياتي، مع ذلك، ومن المفارقات، في الوقت نفسه، نصح كامو بالانضمام إلى الحزب، ولكن فقط لأنّه كان يعلم أنّ تلميذه محصّن ضدّ الأيديولوجيا، وأنّه يمكن التعامل معها على أنّها مغامرة، إذا تمّ ذلك، فلأنّ هناك أسباب .

كان الحزب الشّيوعي في تلك المرحلة قد شارك في قتال الفاشيّة في إسبانيا والنّازيّة في ألمانيا، والاستعمار في الجزائر، تضمّنت مهام كامو في التنظيم بين العمال ونخبة المسلمين، فضلاً عن تنظيم محاضرات عامة وإدارة فرقة مسرحيّة سياسيّة، في اليوميات يعود إلى عام 1936، حيث يتدبّر في ورقة أستاذه جرينيه الموسومة غرينييه حول الشّيوعيّة، كتب هذا الأخير\”السّؤال برمته ينحصر في هذا، هل من الضّروري، لمثل العدالة المثاليّة، قبول الأفكار الغبيّة؟، يمكننا الإجابة بـنعم، إنّه عمل جميل، أو لا ،من الصّدق الرّفض\”، هنا يرسم كامو تشبيهًا لكونه\”مسيحيًا\”وقبول تناقضات الأناجيل وتجاوزات الكنيسة والإيمان بأفكار خياليّة مثل سفينة نوح، عودة لورقة غرينيه، نقرأ\”ولكن، من ناحيّة أخرى، كيف توفق بين الشّيوعيّة والاشمئزاز؟، إذا جربت أشكالًا متطرّفة من العمل، إلى الحد الذّي تصل فيه إلى العبث وعدم الجدوى، فأنا أرفض الشّيوعيّة\”، كان أيضًا نفس العام الذي نشر فيه أندريه جيد كتابه\”العودة من الاتّحاد السّوفيتي\”، ممّا يؤكد خيبة أمله من واقع الشّيوعيّة السّوفيتيّة، أراد كامو تنظيم مؤتمر عام ومناقشة كتاب غرينيه في الجزائر العاصمة، لكن الحزب اعترض ورفض، في العام التّالي، زعم بيان صادر عن ستالين أنّه من مصلحة الاتّحاد السّوفيتي أن تكون فرنسا قويّة وموحّدة، لاسيّما في مناوراته ضدّ ألمانيا النازيّة، ممّا يعني أن الحزب الشّيوعي الجزائري قد وجّهت له أوامر بالتخلي عن معارضة الخط السّياسي للاتحاد السّوفيتي، جادل كامو بأنّ الأمر يتعلق بالتخلي عن المسلمين الذّين عمل معهم عن كثب خلال الأشهر الثّمانيّة عشر الماضيّة، لكن تمّ تجاهله، في الفراغ السّياسي الذي أحدثه إقصاء الشّيوعيين في هذه المنطقة، تمّ تشكيل حزب جديد هو الحزب الشّعبي الجزائري بزعامة مصالي الحاج، كان برنامجه هو الإطاحة بالاستعمار، رغم محاولة الجبهة الشّعبيّة في باريس تمرير قانون يسمح بإدماج الجزائريين واستفادتهم من نفس الحقوق المدنيّة التّي يتمتّع بها فرنسيو الجزائر واليهود، وعُرف بقانون بلوم فيوليت، وكان كامو من المتحمّسين لهذا المشروع، وبالتالي واصل عمله المناهض للاستعمار، وفي نوفمبر 1937، بسبب رفضه لخطّ السّياسي للحزب الشّيوعي وضبابيّة مواقفه تمّ استبعاد كامو من الحزب،في وقت لاحق، وفي أوائل منتصف الأربعينيات، عندما أصبحت أخبار جرائم ستالين معروفة على نطاق واسع، أصبح كامو من أشدّ أعداء الشّيوعيّة .

في ظلّ هذه الظروف، أعاد كامو كتابة المسوّدة الثّالثة والأخيرة من الطّاعون، عندما تمّ دمج التجارب السّابقة، قبل وأثناء الاحتلال – المسوّدات والأفكار المبكّرة للرّوايّة – في النسخة النّهائيّة، تمّت مراجعتها بناءً على تجارب ما بعد التّحرير الحديثة و التّأمّلات الذّاتيّة النقديّة التّي تتساءل عن شرعيّة العنف السّياسي، وبعد قضيّة روبرت برازيلاش* في جانفي 1945 حتّى نوفمبر من نفس العام، استخدم كامو مقالاته الافتتاحيّة في جريدة المقاومة لتوضيح موقفه ضدّ إضفاء الشّرعيّة على العنف السّياسي و عقوبة الإعدام، كتب\”يمكننا تلخيص كلّ ذلك في جملة واحدة، لقد وصلت حضارة الآلة للتو إلى مستواها النهائي من الوحشية، و على نفس المنوال، تناول التقارير المتعلقة بنهاية الحرب ومفاوضات السلام، والنظام السياسي الدولي الناشئ – الذي سيترسّخ قريبًا في الحرب الباردة – بالإضافة إلى السّياسات المحليّة والاستعماريّة\”، كان كامو مشمئزا بشكل عام من الوضع القائم حينها، الفوضى السّياسيّة في فرنسا، تغوّل الشّيوعيين، عمليات التطهير، وإلقاء القنبلة الذرّية على هيروشيما التّي بدت للكثير من المفكّرين والفلاسفة كبدايّة نهاية العالم، بدء العد التنازلي لنهاية الإنسانيّة، وشمل كذلك سلسلة من المقالات، ابتداء من 13-14 ماي 1945، أكد فيها موقفه المناهض للاستعمار، يأتي ذلك في أعقاب مذبحة 8 ماي 1945 في سطيف، والتّي قتلت خلالها القوّات الفرنسيّة عشرات الآلاف من المدنيين الجزائريين الأبرياء، كان كامو قد عاد لتوّه من رحلة ميدانيّة إلى الجزائر في الأسابيع التّي سبقت المذبحة .

بما انّ شعار جريدة المقاومة الفرنسيّة هو\”من المقاومة إلى الثورة\”، أصبح كامو يشكّ بشكل متزايد في معقوليّة الثورة و تكاليفها الباهظة، حتّى عندما جاء لإعادة تعريف المقاومة كشكل ضروري من أشكال التمرّد المستمرّ، تمّ توضيح الكثير من هذا خلال فترة توقف استمرّت اثني عشر شهرًا، حيث توقف عن الكتابة في جريدة(كفاح)وعاد للعمل على الطّاعون، إضافة إلى هذا كان يشتغل على مشروع آخر وهو الإنسان المتمرّد والذّي سينشر عام 1951 ككتاب، لقد كان الكتاب مدعاة لغضب الكثير من رفاق وزملاء كامو، كتّاب ومفكّرين، منهم، سارتر وجماعته، لقد اعتبر من طرف البعض كمارق ومتمرّد، لقد أسيئ فهمه، لقد حاول شرح القضيّة من وجهة رأيه بعيدا عن الأحكام المسّبقة، كان لزاما عليه عرض أفكاره حول الأزمة التّي يعيشها العالم في تلك الفترة، السّباق نحو التسلح، حكم الإعدام، الاستعمار ..
أوّلاً، في محاضرة ألقاها في الولايات المتّحدة في جامعة كولومبيا في 28 مارس 1946، بعنوان\”الأزمة الإنسانيّة\”،قال فيها \” نقترح[على الأمم المتحدة]أن تكون الكتابة النصيّة الأولى لهذه المنظمّة العالميّة تعلن رسمياً، بعد محاكمات نورمبرغ، إلغاء عقوبة الإعدام في جميع أنحاء العالم\”، بعد ذلك، في سلسلة من ثماني مقالات بعنوان\”لا ضحايا ولا جلاّدون\”، حيث أعلن كامو في المقالة الأولى من هذه السّلسلة\” يجب أن نسأل أنفسنا سؤالين، عم أم لا، بشكل مباشر أو غير مباشر، هل تريد أن تتعرّض للقتل أو الاعتداء؟، نعم أم لا، بشكل مباشر أو غير مباشر، هل تريد القتل أم الاعتداء؟\”، بالنسبة له، كانت الإجابة على كلا السّؤالين بالنفي، وهذه الإجابة تلزمه – وكذلك أي شخص يجيب بـ\”لا\”على هذه الأسئلة – بسلسلة من الإجراءات التّي من الآن فصاعدًا تضع الإنسان على الأيديولوجيات السّياسية، كانت هذه الأسئلة، وتجارب الفترة التّي أعقبت التحرير مباشرة هي التّي فرضت عليه هذه الأسئلة،هي التّي حرّكت النسخة النّهائّية من الطاعون، تظهر نتيجة العلاقة بينه وبين فرانسوا مورياك وما دار بينهما من حوار حول فكرة الموت وحكم الإعدام، سنعثر على هذا الأثر في الرّواية من خلال الأب بانيلو وخطبته أمام جمع كبير من سكّان وهران المحاصرين، حيث ينتقد الكاهن في خطبته\”لقد فكّر وتكلم بدون صدقة، شيء غريب آخر\”، يؤكد الرّاوي، بين الخطبتين أنّه بدأ يقول\”نحن\”بدلاً من\”أنت\”، وفي نفس الوقت وهذا ما سيظهره كامو من خلال ثاني أهم شخصيّة في الرّواية و هو تارو، هناك خيط مشترك أكثر أهميّة في هذه الشخصيّة،لما اقترب من ريو لأوّل مرّة بهدف تنظيم مجموعات الصّرف الصحّي، يعطي كسبب للانخراط في مكافحة الطاعون\”أحكام الإعدام ترعبني\”، في وقت لاحق يشرح ذلك من خلال سرد قصّة حول كيف أنّه في سنّ السّابعة عشر، كان حاضرا في المحكمة لرؤيّة والده المدعّي العام، وهو يطالب بحكم الإعدام ضدّ رجل متهم بجريمة ما، فأدّى ذلك إلى تسميم علاقته بوالده وبعد فترة وجيزة من مغادرته المنزل، يمكن أن يكون الوصف في الرّواية هو وصف برازيلاتش نفسه\” لقد بدا وكأنّه بومة تخاف من ضوء شديد السّطوع\”، لكن محاربة الطاعون ليست جرما، بل شجاعة وقدرة على مواجهة أشكال الموت، تارو يدرك هذا، لا يخاف، هو فقط، متشكك من فكرة الموت، فتأتي اللحظة الحاسمة عندما يشرح أخيرًا دوافعه لريو مستخدمًا الطاعون كاستعارة :
ـ أدركت حينها أنه بالنسبة لي، على الأقل ، لم أتوقف بعد عن أن أكون فريسة خلال كل هذه السّنوات الطويلة عندما كنت أعتقد، من كلّ روحي، أنني كنت أحارب بالضبط هذا الطاعون نفسه، علمت أنني دعمت بشكل غير مباشر موت آلاف الرّجال، حتّى أنّني تسببّت في هذه الوفاة من خلال إيجاد الخير في الإجراءات والمبادئ التّي أدّت إلى ذلك حتماً \”، في قصّة تارو، يشهد والده كلّ عمليّة إعدام، كان هذا الفعل، في النّهايّة هو الذي دفع المراهق تارو لمغادرة المنزل، ليست هذه هي المرّة الأولى التّي يتم فيها سرد مثل هذه القصّة في رواية الطاعون .

يظهر الاختلاف في روايّة الغريب أثناء انتظار ميرسو تنفيذ حكم الإعدام، حينها يتذكر قصّة أخبرته والدته عن والده، وهو رجل لم يعرفه من قبل، أخبرته انّه ذهب لحضور حكم إعدام في الجزائر العاصمة، طبيعة الجريمة(قتل الأطفال)جعلته يعتبر العقوبة عادلة جدًا لهذا المجرم، استيقظ في وقت مبكّر من صباح ذلك اليوم وسار إلى نهايّة المدينة حيث كان من المقرّر قطع رأس المحكوم عليه علنًا، وعندما عاد إلى المنزل ذهب ليستلقي على السّرير، رافضًا التحدّث عمّا رآه وبدأ يتقيأ، وفي عام 1957، يُمكن الافتراض أنّ هذا العمل الطقسي مروّع لأنّه تمكّن من التأثير على طريقة تفكير والد كامو، جعله حكم الإعدام ينظر للموت بشكل مختلف، الموت ليست مجانيّة، لها ثمن باهظ، لقد وجد نفسه يحضر طقس إزهاق روح مجرم لا يعرفه ، لكنّه كان موافقا على هذا الحكم رغم انّه يجهل الكثير عن الجريمة المقترفة باستثناء ما سمعه من الناس، وإذا كانت العقوبة التّي اعتبرها مستحقة لم يكن لها في النهايّة أيّ تأثير سوى جعله يشعر بالغثيان، عندما تتسبّب العقوبة الشّديدة في التقيؤ من جانب المواطن المحترم، فمن المفترض أن تحميه، كيف يمكننا أن نجادل بأنّه من المحتمل، بدلا من\”كما ينبغي أن يكون\”لجلب المزيد من السّلام والنظام للمجتمع؟، على العكس من ذلك، من الواضح أنّها ليست أقل إثارة للاشمئزاز من الجريمة، وهذا القتل الجديد، بعيدًا عن إصلاح الضّرر الذي لحق بالجسد الاجتماعي، يضيف وصمة شك وبلبلة إلى الأولى، فإنّ تفاصيل القصّة المتعلقة بوالد كامو لا يمكن التحقق منها وربّما تغيّرت قليلاً على مدار السّنوات، تمامًا كما تغيّر تفسير كامو للتاريخ بلا شك،اعتمادًا على مسار فكره و سياق ذكرياته، قبل بضعة أشهر، في أكتوبر 1944،عندما صدر أوّل حكم بالإعدام بسبب عمليات التّصفيات التّي طالت المتعاونين مع النّازيين، وصفه كامو بأنّه\”سابقة مروّعة\”، كان فيها\”رد الفعل الغريزي\”هو الكراهيّة والاشمئزاز، مع ذلك، هو الذي قبله على مضض باسم العدالة، في إحدى مقالاته في أواخر الثلاثينيات، أشار إلى عقوبة الإعدام على أنها حقيقة اجتماعيّة، لكنّه لم يصدر حكمًا بشأنها، وفي الغريب عندما سمع ميرسو قصّة والده لأوّل مرّة،شعر\”ببعض الاشمئزاز\”من رد فعله على رؤيّة إعدام، لكن هو نفسه، أي ميرسو قرّر أنّه إذا خرج من السّجن فسوف يحضر من الآن فصاعدًا أكبر عدد ممكن من عمليات الإعدام، مع العلم انّه لم يكن من المدافعين عن هذه العقوبة، ربّما كان كامو قد تأمّل جيدًا في قصّة والده في تلك اللّيلة في جانفي 1945، و ربّما كان الدّافع وراء ذلك هو انّ الالتماس استند إلى حقيقة أنّ برازيلاش نفسه كان يتيمًا في الحرب، حيث قُتل والده في نفس الحرب التّي قتل فيها والد كامو، على أيّ حال، فقط بعد قضيّة برازيلاش أعاد كامو توجيه تفكيره عن وعي ضدّ عقوبة الإعدام و ضدّ إضفاء الشّرعيّة على العنف السّياسي بجميع أشكاله، التّطهير، إراقة الدّماء، انفجار الدّمامل والبثور يوفّر طبقة مجازيّة إضافيّة للرّوايّة التّي كتبها\”كان الأمر كما لو أنّ الأرض حتّى تحت منازلنا كانت تطهر حمولتها من الحالة المزاجيّة ، كما لو كانت تترك الدّمامل والقيح يصعدان إلى السّطح بعد ما كان حتّى ذلك الحين صراعًا داخليًا \”، قال الرّاوي .

عندما تمّ نشر الطاعون أخيرًا في فرنسا في جوان 1947، حققت نجاحًا فوريًا، لكن الكثير من هذا النجاح بني على جمهور القرّاء الذين سرعان ما فسّروا الرّوايّة على أنّها قصّة رمزيّة لمقاومة الاحتلال النازي، وعلى أساس هذا التفسير ترقّى ألبير كامو إلى رتبة بطل المقاومة، غالبًا ما تقع الأمم في أوهام مطمئنة، تحتفظ بها طبقاتها السّياسيّة وصحفيوها، وقد سقطت فرنسا في حالة من\”السّير نائمًا\”تمّ فيها تجاهل تجاوزات وظلم التطهير، والاستمراريّة بين إدارات الاحتلال والتحرير، لصالح صورة قدمتها المقاومة لزمن كانوا فيه أبطال بمرتبة القداسة، الأهم من ذلك، أنّها كانت تُعتبر فترة منتهيّة في التاريخ، ويمكن رسم خط تحتها، ماض بطولي يمكن أن ينعكس فيه الحاضر والمستقبل، من اللافت للنظر أنّ التطهير القضائي كان لا يزال جاريًا عندما تمّ نشر الرّواية، وإن كان ذلك بطريقة أقلّ حدّة، حيث تُقرأ الرّواية بأجزاء متساويّة مع إنكار للواقع المعاصر وشكل غريب من الحنين إلى الفترة(في ذلك الوقت)الأكثر رومانسيّة، الاحتلال، تمّ تعزيز هذا النهج الموازي لـلطاعون في العام التّالي عندما تمّت ترجمته إلى الإنجليزيّة، حيث تمّت قراءته بسرعة من خلال العدسة الضيّقة للحرب الباردة، والتّي أدّت خلالها مقاومة الاستبداد إلى مجموعة أكثر بساطة من الأوهام الوطنيّة، حيث كان هناك أبطال واضحون، ويأتي العدو من خارج حدودها، غالبًا ما تمّت الإشارة إلى شخصيّة تارو على أنّها شيوعيّة، على الرغم من أنّ هذا لم يُذكر بصراحة في الرّوايّة، انتقاد كامو نفسه للشيوعيّة يبدو أنه يبرّر هذا التفسير، ولكن غالبًا ما تمّ تجاهل أنّه لم يكن ينتقد الشّيوعيّة فقط، بل كلّ ما أفرزته عملية تحرير فرنسا من النّازيّة وما أعقبها من فوضى وتجاوزات، كان يمكن لكامو بشكل من الأشكال إهداء روايّة الطاعون لضحايا تلك الفترة السّوداء من تاريخ فرنسا .

***
هوامش :

أنطونين أرتو، بالفرنسية Antonin Artaud))‏ : ولد في مرسيليا في 4 سبتمبر 1896 وتوفي في باريس 4 مارس1948، شاعر وممثل كما أنه ناقد وكاتب ومخرج مسرحي فرنسي، ساهم في بلورة ما يعرف بمسرح القسوة في كتابة الخاص\”المسرح وقرينه\” والذّي يعد المرجع الأوّل لتوجهه المسرحي،. يُعدّ أرتو امتدادا طبيعيا لاتجاهات رفض الواقعيّة والتمرّد عليها، ولكنّه ذهب إلي مدي أبعد من الذي ذهب إليه أصحاب تيار مناهضة الواقعيّة،. لقد التقت أفكار أرتو مع الكثير من آراء شعراء العرض المسرحي\”كريج وآبيا\”ولكنّه تميّز عنهما في قدرته علي صياغة نظريّة قائمة بذاتها، بل تستند إلى أسس فلسفية راسخة وهي ما يطلق عليها نظرية القسوة \”Theory of Cruelty \” وقد آثّرت بكثير على مخرجي ما بعد الحرب العالميّة الثّانيّة .

روبرت برازيلاش،(31 مارس 1909- 6 فيفري 1945)، مؤلف وصحفي فرنسي، من المعروف عنه انّه محرّر لجريدة قوميّة جاءت لدعم العديد من الحركات الفاشيّة ودعمت خاصة جاك دوريو، بعد تحرير فرنسا، أُعدم بعد محاكمة ورفض شارل ديغول منحه عفواً، تمّ إعدام برازيلاش بسبب تأييده للتعاون والإدانة والتحريض على القتل، لا يزال الإعدام موضع جدل لأنّ برازيلاتش أُعدم بسبب\”جرائم فكريّة\”، بدلاً من أعمال عسكريّة أو سياسيّة .

بقلم : عبد الغني بومعزة ( روائي و مترجم )

ملاحظة : للنص عدّة مراجع يمكن العودة إليها ..