المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

الجزائر ـ باريس: كتاب ينتظر فيزا

سعيد خطيبي*

مكانة اللغة الفرنسية في الجزائر لا تزال محل جدل. لن نكرر مقولة كاتب ياسين بأنها «غنيمة حرب» لأنها صارت، في السنين الأخيرة، «بارود حرب». فكلما احتدم خصام سياسي بين الجزائر وفرنسا انعكست التبعات على المسألة اللغوية، مرة بالزج بالإنكليزية كبديل لها، ومرة أخرى باستعادة أرشيف الاستعمار وتحميل اللغة لباساً أيديولوجيا. قبل قرن من الآن، ظهرت نخب جزائرية، وجدت في الفرنسية خياراً لها، في مخاطبة المُستعمر وكذلك للتوجه إلى فئة المتعلمين من الأهالي.
ظلت الفرنسية لغة النخب إلى غاية الاستقلال، ثم بدأ مشروع التعريب، فدخلنا الازدواجية اللغوية، مع ذلك استمرت الرواية الجزائرية، في السنوات الأولى التي تلت الاستقلال، بالفرنسية (إلى أن ظهرت «ريح الجنوب» عام 1971). وكل بضع سنين نسمع عن ميلاد كاتب جديد أو آخر ينتقل من الفضاء المحلي إلى مكتبات فرنسا. قد يكون شاعراً أو روائياً أو كاتباً مسرحياً.
واصل ذلك الأدب المكتوب بلغة الآخر، الذي يُخاطب الجزائريين، يزحف ـ ولو ببطء بين ضفتي المتوسط ـ ووجد له جمهوراً ونقاداً، لكن منذ عشر سنوات، نلاحظ ركوداً غير مسبوق. في السنوات العشر الأخيرة لم نسمع عن كاتب جزائري جديد وصل إلى جادة سان جيرمان.. ولا عن كاتب محلي واحد استطاع أن يصدر نصه، ويفرض اسمه في الدوائر الباريسية، مع العلم أن الكتاب الجزائريين، في الماضي، كانوا خياراً أساسياً في أجندة الناشرين الباريسيين، كما لو أن الكتاب صار مثل المواطن، ينتظر تأشيرة سفر تتمنع القنصلية عن استصدارها. حالة من الركود تجعلنا نتساءل: ماذا حصل كي يتراجع الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في فرنسا؟

باب ضيق

عام 1950 صدرت رواية «نجل الفقير» لمولود فرعون، التي أسست للرواية الحديثة في الجزائر، وللغرابة أن تلك الرواية خرجت إلى النور، في طبعتها الأولى، على نفقة مؤلفها. ذلك النص المرجعي، الذي بات من الكلاسيكيات لم يجد ناشراً، على الرغم من أن فرعون أرسل المخطوط إلى بعض دور النشر، لكن دون جدوى. في وقت لاحق سوف يُعاد طبع تلك الرواية عن دار «لوسوي» لكن مسؤولي تلك الدار لم يتعاملا مع «نجل الفقير» من منظور أهميتها الأدبية، وليس بغرض الدفاع عن الفرنسية في الجزائر ـ التي كانت تحت الاستعمار ـ بل استعاداها بعدما قررا التفرغ لنشر كتب مقاومة، كتب تتضمن نبرة سياسية معادية للاستعمار في متنها.
إذن دار لوسوي التي ستكون مقصد الجيل الأول من الكتاب، فتحت بابها للجزائريين ليس لأنهم أدباء، بل لأنهم ينخرطون في خطها التحريري. في المقابل فإن دور نشر باريسية أخرى تعاملت باستخفاف مع ما يكتبه الجزائريون في الخمسينيات. يتذكر كاتب ياسين واقعة حصلت له مع أحد الناشرين، عندما تقدم إليه بمخطوط «نجمة»: «أنتم الجزائريون لديكم أغنام جميلة في بلدكم، لماذا لا تكتبون عنها؟». هذه السخرية سادت بعض الناشرين الفرنسيين آنذاك، فعدا «لوسوي» التي التحق بها محمد ديب، ومن بعده كاتب ياسين، فالناشرون الآخرون أرادوا من الجزائريين نصوصاً خفيفة الظل، خالية من الحديث عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي كانوا يعيشونها زمن الاستعمار. كذلك حصل مع آسيا جبار، التي أصدرت باكورتها «العطش» عن دار «جوليار». وهي رواية سببت متاعب لصاحبتها حال صدورها. تساءل مناضلون في الحركة الوطنية: كيف يعقل ونحن في قلب حرب تحريرية أن تكتب آسيا جبار عن بطلة بورجوازية تبحث عن الملذات بينما بلدها يحترق؟ دار «جوليار» رأت في آسيا جبار بديلاً عن فرنسواز ساغان، التي اكتسحت السوق بباكورتها «صباح الخير أيها الحزن» وروجت الصحف لآسيا جبار أنها «فرنسواز ساغان مسلمة».
لن تعرف آسيا جبار طريقاً للحديث عما يعيشه بلدها، سوى بعدما غادرت دار «جوليار». هكذا استمر الوضع سنوات أخرى. لم يجد الكتاب الجزائريون طريقاً لهم صوب الدور الفرنسية سوى في حال الدور التي التزمت بخط سياسي في الدفاع عن استقلال المستعمرات، أو إلى دور نشر صغيرة أخرى ملتزمة بخط ماركسي، مثل دار (دانوال). بالتالي سنجد أن تاريخ الرواية الجزائرية، المكتوبة بالفرنسية، كان شاقاً من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى، ولم يفرش لها بساط، كما يظن البعض، لذلك اضطر الكثيرون للبقاء والنشر في الجزائر، وآخرون انتقلوا إلى فرنسا بعدما فرضوا أنفسهم في بلدهم، على غرار رشيد ميموني والطاهر جاووت، لكن ذلك حصل قبل أكثر من ثلاثين سنة، أما الآن فيبدو أن ذلك الباب الضيق قد أوصد في وجوههم.

جمهور المغتربين

عندما تنشر دار فرنسية كتاباً لمؤلف جزائري، فهي تفكر ـ بطبيعة الحال ـ في مكسبها المادي، فالربح من حقها، وفي فرنسا ما لا يقل عن 10% من تعداد السكان الإجمالي أصولهم جزائرية، بالتالي فإنها تحوز قاعدة قراء محتملين واسعة، فمن ضمن ما لا يقل عن 6 ملايين فرنسي، من أصول جزائرية، غالبيتهم من النخب ومن المتعلمين، فإنها تُراهن على هامش سوق مبيعات مهم.
منذ خمسين سنة، لم تخل عملية النشر بين الجزائر وفرنسا من الحسابات التجارية، كما لا نغفل أن علة نجاح بعض الكتاب الجزائريين، في فرنسا، مصدرها تهافت المغتربين على اقتناء نسخ من أعمالهم. إن هذه الشريحة المعتبرة من المغتربين تلعب دوراً حاسماً في لعبة الترويج للكاتب الجزائري، حين يصل إلى باريس، ودور النشر تدرك تلك الحقيقة، لذلك نلاحظ أنها تتوجه إليهم بأعمال تقارب همومهم: الهجرة، التدين، ولاسيما الموضوع الأكثر إثارة جدلاً ونقصد منه تاريخ حرب التحرير.
مع ذلك رغم هذا الجو العام، الذي من شأنه ـ نظرياً ـ أن يتيح أرضاً مواتية للكاتب الجزائري في فرنسا، فقد غابت الأسماء الجزائرية، في السنين الأخيرة، لم نعد نسمع عن كاتب واحد انطلق من الجزائر فوصل إلى باريس، كما حدث في السابق، وهذا ما يمكن أن نفسره بتغير شروط السوق، يبدو أن الدور الباريسية صارت لها أهواء أخرى، خرجت من حيز الانشغالات القديمة، وأن الجزائر وجمهور المغتربين لم يعدوا من اهتماماتها، لكن الأكيد أن ذلك لن يمنع من مواصلة الجدل بشأن اللغة الفرنسية في الجزائر، على الرغم من تغيب الحضور الأدبي الجزائري في جادة سان جيرمان.

روائي جزائري

*القدس العربي