حاوره: الخير شوار
هذا الحوار كنت قد أجريته قبل أربع سنوات، مع الروائي الراحل الطاهر وطار، بمناسبة انتهائه من كتابة الجزء الأول (والوحيد) من مذكراته التي صدرت بعد ذلك تحت عنوان \”أراه.. الحزب وحيد الخلية\”. وكان ذلك فرصة للغوص في تفاصيل ذكرياته والعودة إلى منابع تشكل الوعي الثقافي والسياسي لديه. وهذه فرصة لإعادة قراءة الطاهر وطار بعد اكتمال تجربته الثقافية والحياتية، وقد رحل علينا مؤخرا:
الخير شوار: أنت معروف كروائي، لكنك في المقابل صاحب تجربة سياسية طويلة… مذكراتك، هل هي سياسية أم أدبية؟
الطاهر وطار: هي مذكرات سياسية، اجتماعية، تاريخية أيضا، تقوم على شقين، الأول هو الوجود في مكان قصد الانتحار بسبب الإحالة على المعاش في سن السابعة والأربعين. في هذه الأثناء تعود الذاكرة إلى الطفولة حيث تستعرض ما يقرب من خمس سنوات أو ست، وتنتهي مع الحرب العالمية الثانية. هي مذكرات سياسية لأني تعرضت لطبيعة «جبهة التحرير الوطني» والأساليب القمعية المستعملة ضدي بتهمة الشيوعية والمضايقات لإبعادي، ولأنني صممت على البقاء باعتبار أن «جبهة التحرير الوطني» موروث لجميع الجزائريين. وهو تجمع سياسي وليس حزبا يقوم على ضوابط فكرية وأيديولوجية، وبالتالي يمكن العمل داخله ويمكن الاستفادة منه ولو قليلا. لقد كانوا يسعون إلى تصفيتي حتى بمحاولات القتل إلى أن وجدت نفسي محالا على المعاش، وقد تعرضت في المذكرات إلى تفاصيل كثيرة. والمذكرات تاريخية ـ اجتماعية لأنني صورت بدقة الدار التي ولدت فيها في بادية في سفح جبال الأوراس، وهي هضبة تبدأ من مداوروش وتقطع «الحضنة»، وتصل إلى منطقة الجلفة وأفلو وتيارت، وهي شبه سهل طويل سكانه يتشابهون في العادات والتقاليد.
يتشابهون وفيهم الهلاليون والأمازيغ والأجناس المختلفة؟
يتشابهون في العادات والتقاليد، في اللباس والعقلية والأكل.. كل الدول التي قامت في الجزائر، قامت في تلك الهضبة/السهل.
وهل أعدت اكتشاف شيء جديد وأنت تكتب المذكرات؟
في دار جدي اكتشفت أن المجتمع في ثلاثينات القرن العشرين فقد ذاكرته، ولم يبق يعرف شيئا عن دخول العرب والدول العربية الأمازيغية، وعن حروبه ضد الغزو الاستعماري. كل ما بقي في الذاكرة هو المتعلق بعالم الآخرة، يوم القيامة، الصلاة، الصوم ومكة المكرمة، والعلاقة بين الإنسان والله. وهذا الأمر لم يكن خاصا بمنطقتنا، فحتى في الجزائر العاصمة مثلا، كانت الأغاني الشائعة هي «فاطمة بنت الرسول» وما شابهها من مدائح دينية، أما إذا احتاجوا إلى غناء الدنيا «استوردوه» من المغرب الأقصى على غرار أغاني «الفاسية» و«المكناسية» التي أعيد أداؤها في الجزائر.
الخير شوار : وكيف تم اقتلاع الذاكرة الجماعية؟
الطاهر وطار: باقتلاع كل من يحملها. فرنسا نجحت في قتل وإبعاد ونفي كل من يحمل شيئا من الماضي فعملت بطرق مختلفة على تهجير الناس منطقة إلى أخرى، وإذابة الآثار التاريخية، حتى يبقى الشعب بدون تاريخ. وانحصر التعليم في القرآن الكريم وبعض أصول اللغة والفقه.
الخير شوار : كتبت الآن الجزء الأول فقط، أين يتوقف هذا الجزء؟
الطاهر وطار: سياسيا ينتهي عند حالة حزب «جبهة التحرير الوطني» في نهاية السبعينات. وتبقى هناك مجالات كثيرة سأعود لاحقا إلى تناولها، وربما سأفرد لها جزءا كاملا. أما اجتماعيا وتاريخيا فهو ينتهي برحيل أبي من دار جدي في عام 1941 تقريبا. كنا نرحل في الليل في عربات تجرها الثيران والخيول، وكنت أتأمل نجمة في السماء… أسألها عن الدراجة الوحيدة في دوارنا التي كنا نعشقها حد الجنون.
الخير شوار: ومن كان صاحب تلك الدراجة؟
الطاهر وطار : كانت هناك ثلاث وسائل «حداثية» تسير من تلقاء نفسها، الأولى سيارة لأبي، لا أذكر سوى لون غطائها الأبيض ولا أذكر كيف ركبتها، والثانية هي دراجة «رجم بن الزين»، التي كنا نتمنى مجرد لمسها، والشيء الثالث هو ما كنا نسميه محليا «بابور» ذلك الفرن النحاسي الصغير الذي كان يستعمل في طهي الطعام، كان يشتغل بدون تبن أو «وقيد» «بقايا البهائم» . تلك هي جملة الأشياء الحداثية.
الخير شوار:عاب عليك البعض عدم نشر مراسلاتك مع الكاتبة الجزائرية الراحلة زليخة السعودي، وأجبت بأن التقاليد لا تسمح بذلك. فهل كتبت في هذه المذكرات ما تسمح به التقاليد فقط؟
الطاهر وطار : فيما يتعلق بتلك الفترة «1962 ـ 1963» ، فقد كنت أرتدي الزي العسكري، كنت مديرا ورئيس تحرير لجريدة «الأحرار» في قسنطينة ثم جريدة «الجماهير» في الجزائر العاصمة «بلباس مدني» . وكنا في انهماك تام، حيث ان أسرة الجريدة كانت تتكون من شخصين أو ثلاثة لا غير، فجميع المتعلمين كانوا يلهثون وراء المناصب، وهذا طبيعي. قد تكون للإنسان عواطف، وأعتقد أن جزءا كبيرا منها كان يتعلق بحالة البلاد السياسية والإدارية والثقافية، وبالمستقبل. أما العلاقة بين الطاهر وطار وزليخة السعودي فليست علاقة شباب متفرغ للحب، خال من الهموم. في خضم معركة كبرى يصبح الحديث عن الجانب العاطفي ثانويا جدا، ولربما يعد نوعا من استراحة المحارب القصيرة.
الخير شوار: وماذا ستكتب عن زليخة السعودي في مستقبل المذكرات؟
الطاهر وطار : عندما أصل إلى تلك الفترة، سأكتب نفس الكلام الذي قلته لك، ربما سأتحدث بالتفصيل عن الحالة العامة للجزائر، وليس عن علاقة فلان بفلانة. كنت أجتمع مع قادة وأستجوب رئيس الجمهورية وأكتب افتتاحيات، وأهاجم رؤساء جمهوريات. سأخبرك عن شيء تحدثت عنه في مذكراتي، وهو عملية كانت تتم في دار جدي هي تلقيح وتخصيب الحيوانات، استغربت أن الأمر كان يتم بطريقة طبيعية جدا ولا تلفت حتى الانتباه، لأبين أن ما يكتب عندنا في الأدب كان يحدث في الطبيعة، بين ذبابة وذبابة، وبين ديك ودجاجة.
الخير شوار :هذا هو سبب غياب الجنس في رواياتك؟
الطاهر وطار: نعم الجنس جزء من حياتنا اليومية، وهو حاجة طبيعية جدا. وما له خصوصية فهو الحب بكل أنواعه، وأعتقد أنني كتبت عن الحب. وهو سعي للاندماج بين الذوات.
الخير شوار: أثناء كتابة المذكرات، هل كانت رواياتك حاضرة كمحطات رئيسية في حياتك؟
الطاهر وطار: من حين إلى حين…رواية «اللاز» مثلا وهي أحد أسباب اضطهادي، ذكرت كيف كانت حالتي عند صدورها. وفي رواية «عرس بغل» وظفت شخصية السائق الذي كان معي «خاتم» ، وشخصية زيدان «بطل رواية اللاز»، وظفت جزءا كبيرا من سيرة المناضل الشيوعي العيد العمراني عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري الذي التحق بالثورة التحريرية، وذبح في النهاية مثلما تحكي الرواية.
الخير شوار: إلى حد الآن لم تتناول في الجانب الشخصي سوى خمس سنوات، فالحكاية ستطول إذن؟
الطاهر وطار: سأقفز في الجزء الثاني بحوالي عشر سنوات من مداوروش إلى قسنطينة فتونس، وقد تحدثت عن تونس قليلا وعن تعرفي على الفكر الماركسي واتصالاتي الأولى بالشيوعيين التوانسة.
الخير شوار : وهل كانت جذور شيوعيتك في تونس؟
الطاهر وطار: لقد بدأت قبل ذلك في مدينة قسنطينة، هناك كانت جذور التمرد من خلال التعرف على كتابات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني. فقد كان هناك فارق كبير بين ما نقرأه ونسمعه في معهد «ابن باديس» والحياة في الخارج، وحتى داخل «الزيتونة» في تونس لم أقتنع أصلا بما كنا نقرأه. تقضي سنوات في تعلم كيف تصلي، وكيف تتوضأ، وهي أمور لا تحتاج إلى كل ذلك الجهد. أيامها كان الشباب شبه مضطر الى الانتماء إلى مدرسة فكرية، وكنت مخيرا بين البعثية والماركسية، وعندما قدم لي دستور حزب البعث العربي الاشتراكي وجدت أن البعثية هي اقتضاض مشوه للأفكار الماركسية، فرددت بالحرف الواحد ذلك المثل التونسي الذي يقول: «كافر ولا نصف مؤمن»، ذلك رغم خلفيتي البربرية، مع أن الكثير من القبائل كانوا في البعث، وفي قسنطينة كنت أقتني بشكل تلقائي جريدة الحزب الشيوعي دون غيرها، دون أي وعي سياسي.
الخير شوار: وفي تونس؟
الطاهر وطار : اتفقنا مع الحزب الشيوعي التونسي على أن النضال لا يمكن أن يكون خارج «جبهة التحرير الوطني»، لكنني وجدت نفسي في خلية ليس فيها سوى أنا وعمارة مساعدية «شقيق المسؤول السابق لجبهة التحرير الشريف مساعدية» وليس لها أي ارتباط بغيرنا.
الخير شوار :هذا عن السياسة، وماذا عن الثقافة؟
الطاهر وطار: لم تكن حياتنا غنية ثقافيا، كانت حياة مسطحة، أسرة في قمة هضبة ليست لها مكتبة أو شاعر يقرض الكلام الجميل. وكل ما هنالك هو ما نكتبه في «اللوحة» من آيات لا نعرف معانيها.
الخير شوار :في المذكرات، هل كنت تقول الحقيقة، أم تكتفي بأجزاء منها؟
الطاهر وطار :لا يمكن قول كل الحقيقة، الإنسان كائن اجتماعي، ولا يمكن بجرة قلم أن يفصل نفسه عن الناس. هناك تفاصيل تقرأ بين السطور ويمكن للقارئ أن يعود إلى الروايات ليقرأ المسكوت عنه. الإنسان الذي ليس له ارتباط نضالي مع الناس، ارتباط صادق، يضحي من أجلهم ويدعوهم إلى التضحية هو الوحيد الذي يستطيع كسر النموذج. وأنا طيلة حياتي نموذج للمناضل الصادق المستعد في أية لحظة لدفع حياته من أجل ما يؤمن به. من الصعب أن تكسر هذا النموذج وأنت تؤمن بالمستقبل، إن ما أكتبه هو دعوة للآخرين من أجل استنهاضهم.
الخير شوار: وكيف تناولت مسألة فصلك من الحزب؟
الطاهر وطار: قضية فصلي من حزب «جبهة التحرير الوطني» بدأت جذورها يوم الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة في 19 جوان 1965، من ساعتها كنت أعرف بأني مستهدف، وكنت مصرا على النضال ضد الانقلابيين وكتاباتي شاهد على ذلك، وأيضا مصرا على البقاء في الحزب، وهذا الأمر موجود في رواية «اللاز» حيث زيدان رفض الاستقالة، وترك الثورة أيضا، وطريقة الإحالة على المعاش لئيمة فيها تفاصيل كثيرة، أوردتها. وقد حددت ما هي شيوعيتي، فقلت إنها شيوعية تختلف عن مبادئ شيوعية باريس التي أثرت في العرب. ناديت بشيوعية لا تنفي وجود الله، فحتى لو كان الله كذبة في رأي البعض، فهو أجمل وأعذب كذبة، لأنها تخفف عن الناس معاناتهم، وتأخذ بأيديهم في محنة الحياة.
الخير شوار: أما زال لك هذا المفهوم للدين؟
الطاهر وطار: طبعا.. لي علاقة خاصة مع الله. لقد وهبني استخلافه وعلمني الأسماء كلها وأعطاني حرية التدخل في بعض ما نتج من خلل، أعالج القلب والأسنان، ولي الحق في التوليد القيصري، أتصرف بتوكيل من الله في كثير من القضايا، لست ذلك العبد الذليل الممتثل المستكين الذي لا يقدم سوى العبادة المجردة.
الخير شوار :وتؤمن أيضا بالاستنساخ؟
الطاهر وطار: الله خلق أمماً من النحل والنمل والقطط، فإذا أعطاني سرا فهو الذي «علم آدم الأسماء كلها»، وضع في ذاكرة بني آدم كل العلوم وتبعا لتقدم عقل البشرية، وحسب المرحلة، نكتشف سرا من الأسرار. الآن البشرية بصدد معرفة كل شيء عن ADN وهذا لا يعني التناقض مع قدرة الله، أليس زرع السن نوعا من الاستنساخ؟
الخير شوار: ومتى تصدر المذكرات في كتاب؟
الطاهر وطار: قد تصدر وقد لا تصدر، هذا تراث للأمة الجزائرية، للمكتبة، ولست متلهفا على نشرها، أنا موجود في النهاية من خلال إبداعاتي.
الخير شوار: وهل المذكرات من شأنها أن تقلق بعض الأشخاص؟
الطاهر وطار: بالتأكيد.
الخير شوار: وهل أنت مستعد للنتائج؟
الطاهر وطار: أنا لم أشتم أحدا، إذا قلت أن الجهل ساد داخل إطارات «حزب جبهة التحرير الوطني» في الجزائر العاصمة مثلا، بعد انقلاب 1965 من القاعدة إلى القمة، فهذه حقيقة وعندي أمثلة، وقس على ذلك.
الخير شوار :أخيرا.. هل تأثرت وأنت تستعيد تلك الذكريات أثناء الكتابة؟
الطاهر وطار: لقد حزنت وبكيت وأنا أستحضر بعض المراحل.