المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

حوار مع الروائية الفلسطينية: سحر خليفة: أنا ضد الفجاجة والرخص والتعهير في الأدب

حاورتها : نـوارة لـحـرش

سحر خليفة كاتبة وروائية وباحثة ومؤرخة فلسطينية معروفة من مواليد نابلس عام 1941هي واحدة من أهم الروائيين الفلسطينيين أصدرت عددا من الروايات المهمة، أثارت جدلا ونقاشا وإعجابا وتقديرا ونقدا لاذعا في الوقت نفسه..حصلت على البكالوريوس من جامعة بير زيت بالضفة الغربية، وعلى ماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة نورث كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية ثم الدكتوراه من جامعة أيوا في دراسات المرأة والأدب الأمريكي.. حاليا تعمل مديرة لمركز شؤون المرأة والأسرة في نابلس وعلى صعيد الكتابة حققت الكثير من الإنجازات الأدبية برواياتها التي توالت وتدرجت بشكل لافت ومهم في مشهد السرد ليس الفلسطيني ولا العربي فحسب بل العالمي أيضا، فقد تمكنت من الوصول إلى أرقى دور النشر الأوروبية ورواياتها مترجمة إلى أكثر من 13 لغة وتجرى عليها العديد من البحوث، ليس فقط على المستوى النقدي الأدبي، بل أيضاً تُدرّس في مساقات التاريخ ومساقات علم الاجتماع،وقد نالت الكثير من الجوائز والتكريمات العالمية كجائزة \”ألبرتو مورافيا\” الإيطالية، وجائزة \”ثرفانتس\” الإسبانية. وكانت روايتها الثانية \”الصبار\” عام 1976 منعطفا مهما وحاسما لمسيرتها الأدبية والتي نالت شهرة واسعة و وضعت كاتبتها في الصفوف الأولى للمشهد الروائي وهي تُدرّس حاليا بما لا يقل عن 25 جامعة أميركية، كما تُدرّس في ما لا يقل عن 7 جامعات بريطانية وتكللت هذه المسيرة بروايات صدرت تباعا هي:\”الميراث\”عام 1977، \”عباد الشمس\” عام 1980عن دار الآداب، \”مذكرات امرأة غير واقعية\” عام 1986 دار الآداب،\”باب الساحة\”عام 1990،\”صورة وأيقونة وعهد قديم\” عام 2002 دار الآداب والتي حازت على جائزة نجيب محفوظ للرواية لعام 2006 التي تمنحها الجامعة الأمريكية في القاهرة وتعتبر هذه أول جائزة عربية تحصل عليها. \”ربيع حار\”عام 2004 عن مركز أوغاريت الثقافي للنشر والترجمة بفلسطين، \”أصل وفصل\” الصادرة مؤخرا والتي تقع في 456 صفحة وقد قالت عنها بأنها رواية العمر. يذكر أن سحر خليفة نالت جائزة سيمون دبوفوار الفرنسية لهذا العام 2009 مناصفة مع الكاتبة الإسرائيلية \”تسفيا جرين فيلد\”. لكنها رفضت تقاسمها معها معتبرة أن القبول بنصف الجائزة يعني نصف اعتراف. عن هذه الجائزة وخلفيات رفضها لها وعن سيمون دبوفوار ونجيب محفوظ وجائزته وعن الرواية والأدب والسياسة والجنس والكتابة التي ترى أنها حتمية وضرورية لأنها صنو للحياة.وعن أسئلة الرواية الفلسطينية ومسيرتها الروائية تتحدث الروائية الفلسطينية الكبيرة والمثيرة للجدل سحر خليفة. وبالطبع فإن النصر تسعد بتقديم هذه الروائية الكبيرة لقراء الكراس.

لنبدأ بجائزة سيمون دبوفوار الفرنسية لعام 2009 والتي رفضتِ تقاسمها مع الكاتبة الإسرائيلية تسفيا جرين فيلد معتبرة أن القبول بنصف الجائزة يعني نصف اعتراف؟

سحر خـليفة : ما قصدته هو عدم اعتراف اللجنة بي ككاتبة تستحق الجائزة بمفردها، بمعنى النقص في الكفاءة. وحتى أكون كفؤا وتكتمل شروط استحقاقي للجائزة، (حسب توصيف اللجنة كما أفهم الأمر) فعلي أن أحظى بدعم كاتبة أخرى تسد النقص. وهذه الكاتبة يجب أن تكون إسرائيلية على اعتبار أني ضمن دائرة النفوذ الإسرائيلي، وهذا النفوذ لا يخصني كفرد في كيان سياسي اجتماعي عربي فقط، بل يتعدى ذلك إلى قدرات وإمكانات وإبداعات الفرد الفلسطيني، بمعنى مصادرة تلك الإبداعات. وبما أن الإبداعات غير قابلة للمصادرة في مجتمع يدعي الإيمان بحرية التعبير والكلمة(أقصد المجتمع الفرنسي)،وبما أنهم – أي لجنة الجائزة – يرغبون بالاعتراف بإمكاناتي واستحقاقي الأكيد للجائزة، إلا أنهم يستكثرون على واحدة تعد ضمن الممتلكات الإسرائيلية أن تنال قسطها من التكريم دون مراضاة صاحب الملكية المتحكم بالأرض والماء والسماء والبشر. وهذه المراضاة تمثلت في تقسيم الجائزة بين الجانب المحكوم والجانب المتحكم. وهم بذلك، أي أعضاء اللجنة، يعتبرون أنهم لعبوا اللعبة المقبولة من حيث استرضاء المحكوم والحاكم، تماما كما فعلوا بقرارات تقسيم فلسطين. بمعنى أن أسلوبهم في التلاعب والنفاق وادعاء العدالة – وهو ما اعتدناه من جانب العقل الغربي وأدنّاه ونقمنا عليه منذ زمن طويل ما زال يلاحقنا حتى الساعة وفي كافة الميادين وعلى كل المستويات، يلاحقنا في هيئة الأمم، يلاحقنا في المحافل والمحاكم الدولية، يلاحقنا في الإعلام والمهرجانات والمؤتمرات، وأيضا يلاحقنا في المؤسسات الأكاديمية ولجان التحكيم ومؤسسات الغرب بأكملها بما فيها المنظمات غير الحكومية التي تشترط إعترافنا غير المشروط بوجود إسرائيل وتفوق إسرائيل وتميز إسرائيل. كل هذا أعيه تماما ككاتبة وكمواطنة وكثائرة. ومن منطلق هذا الوعي أرفض، وبشدة، أن أعامل بهذه الطريقة المنافقة والمدسوسة والمهينة.

هل رفضك لهكذا جائزة تعتبرينه بطولة فردية ،أم أن القضية الأم تحتاج إلى هكذا رفض وموقف وهكذا بطولة كمحصلة لبطولة شعب أولا وقبل كل شيء؟

سحر خـليفة : أنا لا أسمي رفضي لجائزة ما بطولة، بل موقف نابع عن وعيي لكل ما أشرت إليه في جوابي السابق، أي وعيي للأساليب الغربية المتحيزة المدعية. وأنا حين أعلنت عن رفضي لتلك الجائزة وتعمدت نشره والتحدث فيه، إنما أردت أن أفضح ما نتعرض له نحن الكتاب والفنانين العرب، وبالذات الفلسطينيين، لألاعيب غربية يقصدون من ورائها توريطنا في مواقف سياسية تروج لإسرائيل وتروج لهم كمؤسسات غربية تدعي العدالة في التقييم والتقدير. أردت أن أفضح أسلوبهم المدعي والمنافق، وأجعل من رفضي أمثولة وعبرة لمن هم أصغر مني سنا وأقل تجربة، أقصد الشباب من الفنانين والكتاب. أردت أن أقول أن الجوائز المشبوهة ليست أغلى ولا أعلى ولا أهم من الكرامة الإنسانية والوطنية. وأن هذه الجوائز لا ترفعنا وتعزز من شأننا ككتاب، فالكاتب يثبت أهميته بقدر ما هو ملتصق وملتزم بقضايا العدل والحرية والكرامة الإنسانية. وبدون إلتزام الكاتب بقضايا بلده وشعبه وحرية وطنه، فهو لا يستحق الاحترام ولو نال جوائز العالم أجمع. وهذا ما قلته في رسالة الرفض الموجهة للجنة التحكيم. قلت: \”إن دفاعي واندفاعي نحو الحرية لهو أهم وأغلى من جوائز العالم كله.\” هذا ما قلت، وهذا ما سأقول فيما لو تعرضت لموقف مشابه مهما كانت أهميته الأدبية والإعلامية.

كأن السياسة والأدب دوما على نقيض، السياسة قبلت \”جائزة نوبل التي حصل عليها الرئيس الراحل ياسر عرفات وإسحق رابين وشيمون بيريز» عام 1994 في حين الأدب رفض جائزة سيمون دبوفوار التي اختارتك والإسرائيلية تسفيا جرين فيلد. هل من تعليق؟

سحر خـليفة : أنا لا أستطيع التكهن بما دار في رأس الرئيس الراحل عرفات، لكن موقفه كان متزامنا ومتوازيا مع عقده لاتفاقية أوسلو الكارثية. هو كان مع إتفاقية أوسلو وأنا كنت ضدها. إتفاقية أوسلو ادعت أنها ستأتينا بالحل والسلام، وأنا مع زملائي من الكتاب والمثقفين الذين رفضوا تلك الاتفاقية كذبنا تلك الادعاءات ورفضناها. موقفي تجاه جائزة سيمون دي بوفوار ينسجم مع موقفي السياسي، وكذلك موقف عرفات من جائزة نوبل كان ينسجم مع موقفه السياسي. هذا هو تفسيري للموقفين، لا أكثر ولا أقل.

الجائزة تحمل اسم الكبيرة سيمون دبوفوار التي تعتبرينها مثلك الأعلى ومعلمتك الأولى وفوق هذا اعتبرت كتابها \”الجنس للآخر\” : بمثابة \”الإنجيل الثوري لك وللحركة النسائية العالمية\”،إلى أي حد ساهمت أفكار دبوفوار في تهيئة أو في إشعال حسك التحرري والنضالي؟

سحر خـليفة : حتى أكون صادقة مع نفسي ومعكِ، فإني أعترف بأن أفكار سيمون دي بوفوار وضعت النقاط على الحروف فيما يتعلق بوضعي كامرأة في مجتمع فلسطينيعربي – عالمي ينتقص من كياني الإنساني بسبب أنوثتي وتكويني الجسدي. سيمون دي بوفوار أثرت بي وأثارتني وأرشدتني ووجهتني لطرق معالجة هذا الجانب من جوانبي النفسية والفكرية والجسدية، لكن قضايا التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والتقسيم الطبقي هذه فهمتها واستوعبتها وآمنت بها أثناء دارستي في جامعة بير زيت، ومتابعتي لمنشورات وكتابات وتحليلات الكتاب والمثقفين اليساريين المنبثقين عن التنظيمات اليسارية الفلسطينية، وأيضا من خلال بحوثي الميدانية ثم كتاباتي التي تناولت قضايا العمال والفلاحين وصغار الأجراء، ومن فهمي لما للاستغلال الطبقي من تأثير على تكوين المجتمع بأسره. بمعنى أني فهمت، نتيجة كل تلك المؤثرات، أن الهشاشة البنيوية في مجتمعنا حين تبدأ من تحت، من القاعدة، لا بد وأن تؤثر على المجتمع بأسره فتجعله كحالة الجسد إذا مرض منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى. وهذا منطقي و واقعي ومؤثر. أليس كذلك؟

أيضا فزت مؤخرا بجائزة القراء في فرنسا عن روايتك \”ربيع حار\” وحصلت على70% من أصوات القراء الفرنسيين ومعروف أن رواياتك مترجمة إلى أكثر من 13 لغة، إلى أي مدى يعنيك القارئ الآخر، القارئ العالمي أو الكوني بصفة أوسع؟

سحر خـليفة : في الحقيقة أن إهتمامي بهذا الجانب جاء متأخرا، بمعنى أني لم أكن متنبهة إلى أهمية هذا الجانب على المستويين الإعلامي والسياسي. والصدفة هي التي وعّتني إلى ما لهذا البعد من أهمية. فحين كتبت \”الصبار\” كنت أريد أن أهز القناعات الفلسطينية التقليدية الدارجة في ذاك الوقت، أي في أواسط السبعينيات، التي كانت تجرّم العمال الذين التحقوا بالصناعة الإسرائيلية وارتضوا أن يكونوا جزءا من آلتها. أردت أن أبين الخلل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مجتمعنا الذي سمح بوجود هذه الظاهرة، بل حتّمها. فلو كان للعمال بديل وطني يقدم لهم ما تقدمه الصناعة الإسرائيلية من سبل للرزق، فهل كانوا يتجشمون كل ذاك العناء والمجازفة وركوب المخاطر وفقدان الكرامة؟ في تلك المرحلة، حتى التنظيمات اليسارية كانت تهين العمال وتجرّمهم وتضربهم ضربا فعليا وجسديا بسبب عملهم في إسرائيل وتعتبره عماله. وربما كان لرواية الصبار بعض الفضل في توضيح الصورة واختلاف النظرة. وانتشرت الرواية بشكل كبير ولاقت رواجا لم أكن أتوقعه، ليس على مستوى الفلسطينيين والعرب فحسب، بل أيضا في الغرب، وحتى في بعض دول الشرق الأقصى، التي ما زالت تتهافت على نشر هذا العمل وتعتبره مدخلا لفهم المجتمع الفلسطيني، وربما العربي بأسره. وكانت نتيجة نشر هذا العمل في الغرب مشجعة، إذ أن الكتابات والدراسات التي نشرت حول هذه الرواية جعلتني أرى بشكل فعلي ومجسد كم للأدب من تأثير على الإعلام الأجنبي وعلى نظرة الآخرين لنا. وبالتدريج، وعبر السنين، ومع تزايد إنتاجي وتراكم ترجمات هذا الإنتاج والكتابات والندوات والمؤتمرات التي دعيت لها لأفسر ولأسلط مزيدا من الضوء على ما كتبت، بت أعرف أن لي قراء آخرين غير العرب، وأن هؤلاء القراء بالإمكان التأثير عليهم واستقطابهم وتجييرهم لقضايانا. أنا أومن بحوار الحضارات، وأومن أن الأدب أقدر من غيره على الوصول والتغلغل وفتح الحوار والتواصل. نحن جزء من هذا العالم، نتأثر ونؤثر به. وهذه المعادلة فهمها اليهود قبلنا بزمن طويل، وعلينا أن نبذل مجهودا جبارا للحاق بهم. لقد استأثروا طويلا بالجو العالمي وقولبوه على مقاسهم، فما علينا سوى أن نلوم أنفسنا إذا أبقيناهم يسرحون ويمرحون في هذا الجو بدون منافس. هذا رأيي، وهذا ما صرت أطمح له.

هناك من اعتبر روايتك \”الصبار\” رواية سيئة ولا ترقى للأدب في حين دافعت عنها حنان عشراوي..هل شككتِِِ للحظة أن الرواية فعلا سيئة أم كنت مؤمنة بها وبأجوائها وشخوصها وسياقاتها؟

سحر خـليفة : كنت مؤمنة بالرواية جدا لأن كل من قرأها قبل نشرها في فلسطين أحس أنها تعبير صادق عما يراه ويفكر فيه ويؤمن به. أنا في العادة أعرض رواياتي على قراء أثق بآرائهم قبل نشر أية رواية. يقرأون الرواية ويناقشونني حولها ويحللون أجواءها وشخصياتها ورسالتها. وأستفيد جدا من نقاشاتهم، وفي أحيان كثيرة أغير وأبدل بالنص حين أقتنع بما يقال. أنا أحاول أن أجعل من رواياتي لسان حال مجتمع بأسره. وهذا طبعا طموح ضخم من الصعب تحقيقه، لكني أحاول، وهذا أضعف الإيمان.

هناك من ينظر إلى الجنس في الروايات العربية على أنه لمسة مبتذلة، وهناك من يراه لمسة فضائحية وهناك من يراه ضرورة ،أنت كيف ترينه وكيف تنظرين إليه؟

سحر خـليفة : الجنس جزء من الحياة البشرية ولا يمكن التغاضي عنه كعنصر مؤثر وفعال وإلى حد ما مدمر إذا أسيء استغلاله. وبما أن الأدب تعبير ورصد للحياة فلا بد من التعبير عن هذا الجانب من الجوانب الهامة والمثيرة. لكن ما يهمني هنا هو كيفية التعبير عن هذا الجانب والبوح به. هناك أساليب متنوعة للتعبير عنه، وبصراحة، إذا تمكن الكاتب من التعاطي معه برقة وحساسية وجمالية، وقرنه بالحب والعواطف، وجعل منه موصلا للإحساس والشغف، وعنصرا من عناصر الفهم للشخصية الإنسانية وتطوير بنائها الفني، فلا بد أن تكون لذاك التوظيف قيمة جمالية ونفسية وعاطفية. أما أن يوظف الجنس من أجل الجنس، بمعنى التلاعب بالأعضاء والأجهزة البشرية بقصد الإثارة الرخيصة، واستخدام جسد المرأة كأداة للمتعة والتعهير، فهذا ما يسيء إلى المستوى الأدبي ويجعله قريبا من مجلات وأفلام وكتابات \”البورنو\”، أي التي تتاجر بالجنس بشكله الحيواني. بإختصار، أنا مع رصد الحياة الإنسانية بكل جوانبها سواء السياسية أو الاجتماعية أو العاطفية الرومانسية أو الجنسية. لكني ضد الفجاجة والرخص والتعهير بكافة أشكاله.

وصفتك الناقدة الكبيرة يمنى العيد بأنك حفيدة نجيب محفوظ، هل يسعدك هذا؟ وماذا يعني لك نجيب محفوظ كعالم سردي في الوطن العربي،مع الإشارة أنك فزت بجائزته عام 2006 وهل أثر فيك على مستوى ما؟

سحر خـليفة : طبعا سعدت جدا بما قالته ناقدتنا الكبيرة الدكتورة يمنى العيد عن أدبي، وفخورة جدا بذلك، وإلى حد ما فوجئت. أوصاف كتلك تصدر عن ناقدة بهذا المستوى لهي شهادة مشرفة أعتز بها، ولو أنها تشعرني بمزيد من المسؤولية وبالخوف من ألا أظل في نظرها ونظر القراء بنفس المستوى ونفس العطاء. أما عن نجيب محفوظ، فهو أستاذنا جميعا وقد أثر بي كما أثر في الملايين من القراء وألهم العديد من الكتاب والنقاد، وسيظل مرجعنا وقدوتنا ومنارتنا. نجيب محفوظ علامة أدبية فارقة ليس على مستوى الرواية العربية فحسب، بل وعلى مستوى الرواية العالمية. كما أن سيرته الذاتية ككاتب تثير فيّ نوعا من الخشوع والانبهار. هذا الرجل لم يكن يعبأ بالأضواء والصالونات الأدبية والنجومية الاستعراضية التي يسعى إليها معظم من عرفت من الكتاب. كان ناسكا زاهدا في كل ما يحيط النجوم من أضواء. الأدب بالنسبة له كان مهنة وحرفة ووظيفة ذات قدسية لها طقوسها الصارمة ومواعيدها الثابتة. وعلينا أن نتعلم منه كيف نكون بنفس الالتزام والدقة في مواعيدنا مع الكتابة والقراءة. أحاول أن أقتدي به وأقلده بهذا الجانب، أفشل أحيانا وأنجح في أحايين، لكني أستمر في المحاولة. لأن الانضباط هو الأساس في الإنجاز، في أي إنجاز، وخصوصا في الأدب. أما فوزي بجائزة نجيب محفوظ فلم تغير فيّ شيئا سوى أنها أفرحتني.

ماذا أعطتك الكتابة حتى الآن وهل هي جديرة بالتضحية من أجلها على حساب ربما أمور حياتية أخرى أكثر حتمية وأكثر ضرورية؟ أم أن الكتابة هي الأكثر حتمية وضرورية؟

سحر خـليفة : كما قلت في مقابلتي الأخيرة مع الإعلامي والشاعر زاهي وهبي في خليك في البيت، فقد أعطتني الكتابة الكثير.أعطتني ثقة بالنفس، أعطتني احترام الناس، وأعطتني منصة عالية أقف عليها وأحكي بصوت عالٍ يسمعه الناس. ليس هذا فقط ، بل أعطتني المجال لأن أقول رأيي بصراحة في كل ما يحيط بي وما يعتمل في داخلي من حب وغضب وثورة ونزعة للتثوير. أما إذا ما كانت الكتابة جديرة بالتضحية فأنا للحق لم أضح بشيء في سبيلها، بل ربما، لو كانت الكتابة إنسانا لها لسان لقالت أنها هي التي ضحت من أجلي. بمعنى أنها هي التي أعطتني وأنا التي أخذت. أنا منذ البدء فنانة. منذ الطفولة كان الجميع يتوقعون أن أكون فنانة في ميدان من الميادين الفنية الكثيرة التي إعتنقتها ومارستها وانشغلت بها طوال عمري. الرسم والموسيقى والغناء والكتابة كلها أدوات تعبير تحملني على أجنحة من أثير وتدخلني عوالم سحرية لا حدود لها. هذا هو الفن بالنسبة لي، جمال وسعادة وتحليق وشغف. أنا لا أستطيع الحياة بدون فن.وقد ساعدتني هذه الفنون في تصوير شخصياتي وتلوين مشاهدي وموسقة كلماتي حين يفيض الإحساس ويتسامى. فعلا، الكتابة بالنسبة لي حتمية وضرورية لأنها صنو للحياة.

تنحازين إلى البطولات الجمعية ولا تحبين تمجيد البطولات الفردية، هل لأن الفرد يعني ذاته دوما وفقط والجماعة تعني الكل مثلا؟ وهل الرواية ليست بطولة فردية وهي بذلك بطولة عامة؟

سحر خـليفة : منذ البداية اخترت لنفسي طريق المواجهة،فقدمت شخصيات مأزومة تتصارع مع ذواتها وإمكاناتها وتتصارع مع الجو. خذي مثلا أسامة الكرمي في \”الصبار\”، ثم نقيضه عادل الكرمي، ثم نقيضهما شبه الأمي العامل زهدي. خذي مثال سعدية في \”عباد الشمس\”، ثم نقيضتها خضرة، ثم نقيضتيهما المثقفة رفيف. وأمثلة أخرى من روايات كتبتها بعد مرحلة أوسلو مثل شخصية المعلمة نهلة في \”الميراث\”، التي أفنت شبابها في الكويت،وأخوها المهزوم المأزوم المناضل مازن جيفارا، وأخوه العالم المغترب الضائع في سوق الغرب كمال، ثم صديقتهم فيوليت.كل هؤلاء،رجالا ونساء ليسوا أبطالا بالمعنى التقليدي للبطولة،وليسوا بالضرورة مهزومين تماما، لكنهم بحكم الواقع، واقعهم هم داخل العائلة،و واقع السياسة والاحتلال،أناس مأزومين يبحثون عن مخرج على المستوى الشخصي والجماعي: في الأسرة، في المجتمع، في الوطن المحاصَر والعالم المحاصِر. هذا تحديدا ما أكتب عنه. هؤلاء شخصياتي. أناس أعرفهم في الواقع، واقعنا نحن. أنقلهم من الواقع بالتصوير، وبالتحليل، وأقدمهم للقاريء بلا رتوش، من لحم ودم فيعرفهم. ويقول بدهشة، هذا أنا، هذا هو، هذا فلان وهذا علان، هذا أعرفه وأعرفهم، وهذه أجواء نحياها. قد أجد من يقول لي: هذه شخصيات مهزوزة لا تمثل الواقع الفلسطيني المناضل والساعي للتحرير.وأنا أقول: لو لم تكن شخصياتنا مهزومة مأزومة لما كنا نعيش هذا الواقع. وهذه المقولة لا تخص الفلسطيني فقط، بل الإنسان العربي بشكل عام. هذا العربي وهذا الفلسطيني لا يتصارع مع الاحتلال والمستعمر فقط، بل يتصارع مع واقعه أيضا. وهذا الواقع ليس عظيما كما يتمناه البعض أو يدعيه، لأنه راكد، آسن، قامع مقموع متخلف، وبحاجة للتغيير والتطوير حتى نتحرر من الداخل وبالتالي نتحرر من الخارج. إذ لا يمكن أن يتم التحرير من الخارج ودواخلنا مربوطة بألف رباط وملكاتنا معطلة وعلاقاتنا ممزقة معطوبة. فأين البطولة من كل ذلك؟ أين؟

برأيك ما هي أهم أسئلة الرواية الفلسطينية، هل بقيت نفسها أسئلة الهوية والوجود أم إنضافت لها أسئلة أخرى؟

سحر خـليفة : الأدب بالنسبة لمعظم الأدباء الفلسطينيين أداة صراع من أجل الحرية والتغيير. هذا بشكل عام، أما بالنسبة لي، فأنا أعمد أن أطلق في رواياتي الأسئلة الحارة ذات الأبعاد الوجودية، والسياسية، والاجتماعية، وكل ما يمكن أن يمس وجودنا: ما يعطله أو يحركه أو يقلقه. بالنسبة لي، كان الأدب كل هذا: أسئلة وبحث وفهم وتصوير وجمال، رسم بالمشهد والكلمة، فكما سبق وقلت، بدأت حياتي الفنية كهاوية، ثم تطورت. أصبحت أديبة ملتزمة. تعلمت أن أكون ملتزمة. ربما بحكم ظروفي الشخصية، وربما لأني عشت مرحلة انتكاسات واحتلال وانتفاضات وثورة ونضال وعنف ودمار. و ربما لأن الفن الفلسطيني بجملته كان تعبيرا عن ألم جماعي متواصل وأحلام فردية لا تتحقق. ربما بسبب كل هذا وذاك اخترت لنفسي هذا النوع من الفن: الأدب، الرواية، الرواية السياسية ذات الأبعاد الوجودية حيث الأفراد يتصارعون مع الذات ومع الخارج. والخارج مجتمع ما زال في طور التكوين ومستعمر، ومفاهيم ما زالت محكومة بالتقليد ورفض التجديد وتقييد الفرد. والذات التي تجد نفسها محاصرة بدوائر متتابعة لا حصر لها. فهناك الإخفاق الذاتي، فالاجتماعي فالسياسي المحلي فالعالمي. وكلما زاد الوعي وانكشف المحيط زاد الإنسان تساؤلا وتعمقت أزمات الفرد. لكن الفرد هو البذرة، بذرة المجتمع ولبنته المرصوصة في ذاك البناء. ومن العبث التساؤل حول من الأكثر تأثيرا في الآخر: الفرد في المجتمع، أم المجتمع في الفرد. فهذا من ذاك، وذاك من هذا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعزل الواحد عن الآخر. وعليه، فحين نصور الفرد من خلال عمل فنيوبالذات في الرواية، لا بد وأن نأخذ بالاعتبار تأثير الخارج على الداخل، أي تأثير المجتمع على مسرى الفرد. ولا بد أيضا من رصد تحركات الفرد ومعاناته وتفاعلاته والأساليب التي يبتدعها أو يرتضيها للتعبير عن ذاته ومكنوناته. وهذا ما أحاول فعله في رواياتي: تصوير أفراد مأزومين يعيشون واقعا لا يرضيهم. يثورون عليه، أو يسحقون تحت ثقله، أو يقدمون التضحيات لتغييره سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، المستوى الفردي أو الجماعي. فقضيتنا كمجتمع مهزوم مأزوم متخلف، لا يمكن حصرها بالاحتلال والاستعمار. ومسألة التغيير أعقد وأصعب من مسألة الاستقلال الوطني والتحرير. ولذلك، نجد دعاة التغيير والتطوير ملاحقين، وأحيانا منبوذين ومستهدفين في مجتمعهم مثلما هم ملاحقون من قبل حكوماتهم والمستعمر. وهذا ما أحاول رصده في رواياتي. أو بالأحرى، هذه هي الأسئلة التي أطرحها والأجواء التي أرصدها والإجابات التي أبحث عنها من خلال شخوصي، ومن خلال الجو، ومن خلال واقع أحياه وأعرفه وأتصارع معه وأتمنى لو أغيره، أو أساهم في تغييره. أي أن أقذف في مياهه الآسنة بحصاة تساهم في تعكير ركوده.