صقر النور
ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم
بدافع من ذكريات والده، انطلق صحفي في رحلة بحث عن لحظة ذات أهمية شخصية ووطنية”
خلال محادثاتنا الصباحية على شرفة منزلنا، كان والدي كثيرًا ما يروي تفاصيل حدث لا يُنسى. كان في حوالي العاشرة من عمره عندما شاهد الرئيس الأول لجمهورية مصر، محمد نجيب، الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بالملك فاروق في عام 1952، ينزل من سفينته ليقضي بضع دقائق في دهميت، قريتنا الصغيرة ولكن المهمة في منطقة النوبة في أقصى جنوب البلاد. ألقى الرئيس خطابًا على سكان القرية بلغة الكنزية، وهي إحدى اللغتين الرئيسيتين اللتين يتحدث بهما النوبيون في مصر والسودان المجاورة، وهي لغة لم يتحدث بها أي مسؤول مصري كبير آخر في العلن مرة أخرى.
وُلد والدي في دهميت بعد عام 1933، بعد الارتفاع الثاني في سد أسوان السفلي، الذي بُني قبل عقود من سد أسوان العالي الأكثر شهرة. مرت دهميت، مثل العديد من القرى النوبية الأخرى، بتغيرات كبيرة بسبب البناء الأولي للسد وخزان المياه في عام 1902، وكذلك رفعها في عامي 1912 و1933، مما أدى إلى ارتفاع مستويات المياه في المنطقة. تقع دهميت على ضفاف النيل، وكانت واحدة من القرى النوبية التي تأثرت مباشرة بارتفاع المياه. غمرت كتل كبيرة من الأراضي والمنازل في القرية، مما أجبر السكان على الانتقال إلى مناطق أعلى وأكثر أمانًا، بينما تلقوا دعمًا ضئيلًا ومتأخرًا من السلطات الاستعمارية البريطانية والملكية المصرية. الظروف التي عانت منها دهميت والقرى النوبية المجاورة جعلت زيارة الرئيس المصري النادرة ذكرى مؤثرة للغاية لوالدي.
مع ارتفاع المياه، اضطر العديد من سكان دهميت إلى مغادرة منازلهم والانتقال إلى مناطق أخرى بحثًا عن أراضٍ وسكن بديل، مما أدى إلى تفكيك النسيج الاجتماعي للقرية وتشتيت العائلات. بعد النزوح، بدأت الجهود لبناء منازل وبنية تحتية في مواقع جديدة، لكن جودة وسرعة إعادة البناء تأثرت بنقص الموارد.
رغم التحديات التي واجهتها القرية بعد عام 1933، تمكن السكان من الحفاظ على تراثهم النوبي من خلال الأغاني التقليدية والرقصات ولغات النوبة وممارسات ثقافية أخرى، مما يعكس التماسك الاجتماعي والثقافي القوي لشعب دهميت.
هذا السياق يضيف بعدًا آخر لأهمية زيارة محمد نجيب وخطابه، حيث عانت دهميت، مثل القرى النوبية الأخرى، من التهميش المتكرر والنزوح القسري.
كانت المجتمعات النوبية مهمشة حتى قبل عام 1902. ومع ذلك، تصاعدت معاناتهم مع المشاريع الحكومية والنزوح القسري الذي بدأ في ذلك العام مع بناء خزان أسوان، الذي شكل بداية سلسلة من عمليات النزوح التي اقتلعت النوبيين من أراضيهم الأجداد. وقد أدت هذه النزوح المتكرر، التي بلغت ذروتها ببناء سد أسوان العالي في الستينيات، إلى غمر مناطق واسعة وأجبرت آلاف النوبيين على الانتقال إلى أراضٍ أقل خصوبة، بعيدًا عن منازلهم التاريخية وفي مواقع متباعدة. زادت موجات الهجرة إلى القاهرة والإسكندرية ومنطقة قناة السويس، ولاحقًا إلى دول الخليج، من تفتت الأسر النوبية وإعادة هيكلة مجتمعاتهم، مما أدى إلى تقليل تماسكهم الثقافي. أدى هذا الاضطراب إلى قطع الروابط العميقة للنوبيين بوطنهم ومجتمعاتهم، مما تسبب في معاناة كبيرة. لغة الكنزية، التي تعتبر لغة مهددة، إلى جانب اللغات النوبية الأخرى، تواجه أيضًا تحديات مستمرة لأنها غير معترف بها رسميًا، ولا تُدرس أو تُحافظ عليها من قبل الدولة. لقد ساهم هذا الإهمال في صمت أصوات النوبيين لعقود، مما أدى إلى تآكل هويتهم الثقافية وجعل المجتمع مهمشًا ومقصيًا داخل المجتمع المصري.
عندما أخبرني والدي لأول مرة عن زيارة نجيب، سألتُه بدهشة كبيرة: “هل كان محمد نجيب يستطيع التحدث بالنوبية؟” في إشارة إلى الكنزية، لغة النوبة المحكية حول قريتنا.
أجاب: “لا، ولكن يبدو أن شخصًا ما كتبها له بالحروف العربية أو الإنجليزية، لأنه كان يقرأ من ورقة ولم ينطق بأي كلمة نوبية خارج النص المكتوب.”
سؤالي التالي كان حول ما يتذكره من الخطاب. تذكر جملة واحدة فقط: “أنا نسب إريغوغودو نسِب إري”، والتي تعني “أنا لي نسب معكم”، وهي عبارة تهدف إلى التعبير عن القرابة التي ظلت عالقة في ذهن والدي لعقود.
خلال الأشهر التالية، بدأت بجدية محاولة تحديد الحقيقة وراء قصة خطاب نجيب. مسألة ما إذا كان الرئيس الأول لمصر قد ألقى خطابًا بلغة مهددة بالانقراض تنتمي إلى مجتمع مهمش تاريخيًا هي أكثر من مجرد رمزية. إنها تتعلق بقلب أسئلة الهوية التي لطالما عانت منها النوبة، ممزقة بين جذورها، وثقافتها وتراثها الغني، ومكانها في المشروع القومي المصري الأكبر.
وُلد محمد نجيب في الخرطوم عام 1901، وصعد في الرتب العسكرية ليصبح جنرالاً في الجيش المصري. لعب دوراً محورياً في تنظيم وتنسيق أعمال الجيش التي أدت إلى إنهاء حكم العائلة الملكية — أحفاد محمد علي باشا الأسطوري. بعد ذلك، تم اختياره رئيساً لمجلس القيادة الثوري ثم رئيساً للجمهورية.
على الرغم من شعبيته، عُزل نجيب من منصبه ووُضع تحت الإقامة الجبرية في عام 1954 بسبب خلافات مع أعضاء آخرين في مجلس القيادة الثوري، خصوصاً جمال عبد الناصر، حول إدارة مصر المستقبلية وتوجيه الثورة. كتب نجيب لاحقاً في مذكراته، “كنت رئيساً لمصر”، أن الخلاف نشأ بعد أن أعرب عن دعمه لإعادة الجيش إلى ثكناته وتسليم السلطة للمدنيين. لم تدعم شهادات أعضاء المجلس الآخرين هذا الادعاء.
كانت زيارة نجيب إلى دهميت في عام 1953 جزءاً من جولة في جنوب مصر تهدف إلى تعزيز الروابط بين القيادة السياسية الجديدة والشعب، بعد الإطاحة بالملك. كانت الزيارة جهدًا استراتيجيًا لتعزيز شعبية نجيب والجيش وضمان دعم المجتمع النوبي لدوره ومبادراته.
كان إلقاء الرئيس المصري خطابًا بلغة نوبية خلال زيارته لدهميت سيكون له دلالة كبيرة. كان من شأنه أن يُظهر الاحترام والاعتراف بالشعب النوبي وثقافته الغنية. بالإضافة إلى ذلك، كان مثل هذا الخطاب سيساعد في تعزيز اللغات النوبية، مما يقوي العلاقة بين الحكومة والمجتمع النوبي. كان هذا الفعل سيبرز شمولية القيادة السياسية الجديدة ويعترف بمساهمات الشعب النوبي التاريخية والثقافية في التراث المصري، وهو اعتراف كان ذا أهمية خاصة بعد سنوات من الإهمال والنزوح غير المنسق للمجتمعات النوبية بسبب تطوير خزان أسوان.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة من زياراتي لقريتي، دهميت، ناقشت هذا الموضوع عدة مرات مع والدي، واحتفظت شهادته بالثبات. خلال تلك السنوات، فكرت في بحث الموضوع لمحاولة العثور على دليل قوي على الخطاب، من أجل توعية الجمهور به. بدأت أخيراً بالتحقيق في مصادر التاريخ الشفوي وأرشيفات الصحف. كنت أريد كشف المزيد من التفاصيل حول خطاب نجيب، خصوصاً سياقه وتأثيره على المجتمع النوبي والمجتمع المصري في ذلك الوقت، على أمل تسليط الضوء على جانب مهم من تاريخ مصر الثوري تم تجاهله.
بدأت رحلتي من قريتي بالتواصل مع مؤرخ قريتنا، مبارك عثمان لبيب، وسألته عن معرفته بزيارة نجيب لدهميت. أخبرني أن المصادر التاريخية النوبية وثقت زيارة نجيب إلى أبو حور (قرية نوبية أخرى) من خلال الصور والمقالات الصحفية. ومع ذلك، لا توجد وثائق حول زيارته لدهميت، حيث كانت مجرد توقف سريع في طريقه إلى أبو حور.
كما زودني لبيب ببعض صفحات من كتاب بعنوان “أبو حور بلدنا”، الذي كتبه أبو بكر محجوب حسن (باحث وأرشيفي نوبى) ونشره مركز الدراسات والوثائق النوبية. يتناول الكتاب زيارة نجيب إلى أبو حور وخطابه إلى عمد القرى الكنوذية (دابود، دهميت، أمبركاب، كُشتمان، الدكة، كلابشة).
لم يسفر بحثي في المواقع النوبية وصفحات المدونات عن أي دلالة على أن الرئيس توقف في دهميت أو نزل فيها. تواصلت مع والدي مرة أخرى ودار الحوار التالي: “حاج… الرئيس محمد نجيب لم يذهب إلى دهميت؛ ذهب فقط إلى أبو حور واجتمع بالعمد هناك. ربما يكون فقط قد لوح لك من القارب، لكنك نسيت؟”
أصر والدي: ” لا، هو نزل فى دهميت. ذهب إلى العديد من القرى وتحدث في دهميت بالنوبية”
بدأت بعد ذلك في البحث في المصادر الرسمية. على الرغم من أنني لم أتمكن من الحصول على معلومات من أرشيفات الصحف المتاحة على الإنترنت، إلا أن موقع نجيب على مشاريع توثيق مكتبة الإسكندرية سمح لي باستكشاف جوانب عديدة من تلك الزيارة.
ضمن مواد الأرشيف في الموقع، وجدت تقريرًا نُشر في الأهرام في 7 نوفمبر 1953، يوضح تواريخ وبرنامج وأماكن جولة الرئيس في الجنوب. وصل إلى أسوان في 17 نوفمبر 1953، وافتتح عدة مشاريع في المدينة، ثم أبحر في النيل إلى النوبة.
أكد التقرير أن الرئيس سيزور قرى أونايب، طمار، الدكة، أبو سمبل، أبريم، الدكة، المالكي وبلانة لافتتاح بعض المشاريع. كما قال إنه سيزور شواطئ بعض القرى للقاء الناس في دهميت، أبو حور، السايلا، العلاقي، توشكا وعدندان.
أصبح من الواضح، وفقًا للبرنامج الرسمي، أن الرئيس قد نزل في دهميت والتقى بالناس هناك.
دليل آخر كان صورة نُشرت على صفحة فيسبوك الخاصة بـ “الجغرافيا النوبية”، وهي مبادرة توثيق التاريخ والثقافة والجغرافيا النوبية، تدعي أنها تمثل الناس في قرية أبو حور وهم يستقبلون الرئيس نجيب.
على الرغم من أن الصورة يُقال إنها من قرية أبو حور، إلا أن النساء في الصورة لا يرتدين الشقّة التقليدية (غطاء أبيض يُرتدى فوق الملابس السوداء من قبل النساء المتزوجات في بعض القرى الكنوذية، والذي يكون أبيض خالصًا دون أي تداخل بالألوان أو النقوش). بدلاً من ذلك، يرتدين ملابس سوداء تشبه تلك التي ترتديها نساء قرية دهميت، مما جعلني أعتقد أن الصورة قد تم نسبها بشكل خاطئ وأنها في الواقع من قريتي.
في قريتي دهميت ودابود، في شمال النوبة، كانت النساء المتزوجات يرتدين ملابس سوداء أو ملونة، بينما في قرى نوبية أخرى مثل أبو حور، وكلابشة، وقرطة، والعلاقي، والدكة — وهي أيضًا قرى كنوز — كانت النساء المتزوجات يرتدين غطاء أبيض فوق الملابس السوداء لتمييزهن عن النساء غير المتزوجات. هذا الزي كان جزءًا أساسيًا من تجهيز العروس. ورغم أن هذا التقليد قد تضاءل نوعًا ما في الوقت الحاضر، إلا أنه لا يزال موجودًا في قرى الكنوز.
قطعة أخرى من الأدلة جاءت من كتاب “حقيقة ثورة يوليو”، الذي نشرته مكتبة الأسرة في عام 2002، حيث أشار عبد المحسن أبو النور، قائد الحرس الجمهوري في ذلك الوقت وأحد مرافقي نجيب خلال تلك الرحلة، بوضوح إلى استخدام نجيب للغة نوبية.
يقول أبو النور: “إحدى القصص التي أتذكرها هي أنه أراد الاقتراب من أهل النوبة، وكان لدينا ضابط نوبي يُدعى يعقوب حسن أحمد. طلب نجيب منه إعداد خطاب له باللغة النوبية. وبما أن نجيب لم يكن يعرف النوبية، طلب من الضابط كتابة الخطاب بالحروف العربية. وعندما رست السفينة في أول قرية من النوبة، خلع نجيب قبعته، التي كان بها الخطاب، ووقف أمام الميكروفون على سطح السفينة يلقي الخطاب باللغة النوبية.”
ولكن يبقى السؤال المهم حول ما إذا كان هذا الخطاب موجودًا في الأرشيف الوطني أم لا. حاولت العثور على النصوص أو التسجيلات لخطابات الرئيس خلال رحلته إلى النوبة بالتعاون مع باحثين آخرين، لكن في أرشيف مكتبة الإسكندرية الإلكتروني وجدنا فقط نص خطاباته في مشروع الدكة وأونايبة، بتاريخ 21 نوفمبر 1953. لم يكن هذا هو الخطاب الذي كان يشير إليه والدي.
وفقًا للوثيقة الأرشيفية: “وصلت السفينة السودان، وعلى متنها الرئيس واللواء أركان حرب محمد نجيب، إلى الشاطئ في الساعة الثامنة والنصف إلى منطقة مشروع الدكة، حيث استقبله أعلام وعمد وأولياء الأمور وطلاب المدارس الإعدادية من قرى قورشة، جرف حسين، كُشتمانة شرق، كُشتمانة غرب، الدكة، العلاقي، وقرطة بأعظم مظاهر الترحيب والتكريم.”
ومع ذلك، بناءً على شهادة والدي، وتأكيد وسائل الإعلام، بالإضافة إلى شهادة قائد الحرس الجمهوري الذي رافقه خلال الزيارة، يمكننا الاستنتاج أن نجيب نزل في دهميت وألقى خطابًا بلغة الكنزي.
ما يُبقي الأمل حيًا بشأن وجود تسجيلات أو وثائق غير منشورة متعلقة بتلك الزيارة هو الإشارة التي وردت في كتاب قائد الحرس الجمهوري أبو النور إلى وفد إعلامي مرافق قام بتسجيل الاجتماعات والخُطب لأرشفتها في وزارة الإرشاد (وهي وزارة كانت تشرف على الثقافة والإعلام في ذلك الوقت)، لكن تلك التسجيلات لم تُبث بالكامل.
منذ ذلك الحدث الاستثنائي، ولمدة تقارب السبعين عامًا، لم يسمع والدي أي رئيس آخر يتحدث باللغة الكنزية. ولم يسمع أي من الأجيال النوبية اللاحقة أي رئيس يتحدث بلغتهم، ولم يحظَ هذا الحدث بالبحث الذي يستحقه. ربما تُفتح هذه المحاولة الباب للبحث في أرشيفات الرئاسة أو أرشيفات الإذاعة المصرية للوصول إلى أي مواد صوتية محفوظة من تلك الجولة.
ربما سيستمع والدي وجيله مرة أخرى إلى صوت الرئيس وهو يلقي خطابه باللغة الكنزية، وربما نسمعه نحن والأجيال القادمة للمرة الأولى.
ما زال البحث عن هذا الحدث، العالق في ذاكرة والدي ولكن المحذوف من الذاكرة الوطنية، مستمرًا. (انتهى )
————
صقر النور / عالم اجتماع ريفي ومستشار مستقل، يركز على البيئة السياسية والسيادة الغذائية والعدالة البيئية والتراث الثقافي والتاريخ الشفوي للدول العربية. شارك في تأسيس شبكة العمل من أجل انتقال عادل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويساهم بانتظام بمقالات رأي وأعمدة في وسائل إعلام مستقلة مثل جدلية ونيلفو والمنصة ومدى مصر. تشمل منشوراته البارزة “خبز المرحة: الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في مصر” (2021) و”الناس والمياه في مصر: منظور إيكولوجي سياسي” (2023)، وكلاهما منشور عن دار صفصافة في القاهرة.