المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

البرمجة الذهنية

د. نيفين عبد الجواد

“البرمجة الذهنية” هي عبارة عن كل ما ترسخ في عقولنا وأذهاننا ووجداننا من أفكار ومشاعر وأحاسيس ومعتقدات تكون هي السبب في تكوين أنماط سلوكنا وأسلوبنا في الحياة ومن ثم توجيهنا خلال ما مضى من حياتنا، فهل من الممكن تعديل تلك البرمجة إذا اكتشفنا مدى حاجتنا إلى حياة أفضل نكون نحن فيها أفضل مما كنا عليه؟
إن كل من يسعى إلى التطوير من نفسه للأفضل عليه أولًا أن يجيد الإحساس بذاته كي يعرف كيف يسيطر عليها. والبداية تكون بالتعرف على أنماط سلوكه المتكررة عن طريق ملاحظته لها، ثم استبدالها بأنماط سلوك أخرى وذلك إذا كان السلوك القديم يسبب له أي ضرر، أو إذا كان استبداله بسلوك آخر سيكون أكثر منفعة له. ولكن تعلم سلوك جديد كي يحل محل السلوك القديم يختلف من شخص لآخر، فبقدر اهتمام الإنسان بهدفه يكون سعيه إليه؛ وبالتالي كلما أبديت اهتمامًا كافيًا وتركيزًا أكبر نحو أهدافك كلما وصلت إليها أسرع.
فأن تعرف أشياء عن نفسك شيء، وأن تفهم نفسك على حقيقتها وترى صورتها الحقيقية بوضوح شيء آخر. فكثيرون يعرفون القليل عن أنفسهم بينما قليلون فقط هم من يفهمون أنفسهم جيدًا ويستطيعون قراءة أفكارهم واستيعاب مشاعرهم، وهؤلاء تحديدًا هم القادرون على التفكير السليم قبل اتخاذ أي قرار؛ ومن ثم تكون لديهم القدرة على إسعاد أنفسهم لأنهم أحبوها بكل ما فيها من عيوب ومزايا، فتفهموا أخطاءها وزلاتها وسمحوا لأنفسهم بالتعديل والتصحيح والبدء من جديد وتكرار المحاولة.
ولأن هؤلاء في حالة تصالح مع أنفسهم فإنهم لن يهملوها حتى تجف وتنضب روحًا وفؤادًا، ولن يخضعوا لها كلية حتى تقودهم بكل شهوانية أو تحت تأثير أي هوى. وآنذاك سيتمكنون من توجيه حواسهم وجهازهم العصبي كي يتأملوا ما ينظرون إليه بعدما أبصروه جيدًا، وكي يعووا ما يسمعونه بعدما أنصتوا إليه، وكي يكون حديثهم إذا ما تكلموا ذا معنى، وكي تكون أفعالهم الصادرة منهم عن إدراك ووعي، وكي تكون مشاعرهم وأفكارهم صادقة ونابضة بالحيوية والتفاعل.
وهكذا سيتمكنون من الاتصال الجيد بأنفسهم وكذلك حسن التواصل مع الآخرين؛ فمن لم يسكن الحب في قلبه لن يستطيع بث أية مشاعر حب خارجه، وكذلك من لم يشعر بالسكينة في داخله لن ينعم بالسلام مع من حوله، وهذا الذي يتحدث عن الإصلاح والخير والحق لن يمكنه أن يزرع حوله أيًّا منهم إذا لم يتمكن هو من تلمس ثمار الحق والخير بداخله أولًا.
إن الصلاح والإصلاح –مثلما أوضح الدكتور “إبراهيم الفقي” في كتابه: البرمجة اللغوية العصبية وفن الاتصال اللا محدود– لا يعنيان شيئًا آخر سوى أن تكون لدينا القدرة والرغبة في إصلاح أنفسنا أولًا، ثم فعل كل ما نستطيعه من خير بكل الوسائل والطرق الممكنة مستغلين أية فرصة لذلك من أجل أن يصل ذلك الخير إلى أكبر عدد ممكن من الناس في أي مكان ولأطول فترة ممكنة.
وهل السعادة والنجاح هما شيء آخر غير ذلك؟ وهل المجتمعات الناجحة والسوية تضم شيئًا آخر غير هؤلاء الأشخاص الأسوياء والناجحين الذين يصلحون من أنفسهم باستمرار ويسعون من أجل الإصلاح في الأرض؟
لذلك فإنه من المهم أن نعي ما يدور بداخلنا، وأن نتمكن من الاتصال الجيد بأعماقنا بكل ما فيها من أفكار ومشاعر وعادات واعتقادات وقيم، فتكون لدينا القدرة على إدراك كل ما يحدث في عالمنا الداخلي قبل أن يظهر للخارج؛ ومن ثم نتمكن من السيطرة عليه والتحكم فيه. وطالما تمكن الإنسان من إحكام السيطرة على نفسه فسيكون من العسير على غيره التحكم فيه أو تسيير حياته كيفما يشاء، وتلك هي معضلة عصرنا الحالي المُسمَّى بعصر المعلومات والذكاء الاصطناعي والذي بقدر ما زوَّد الإنسان بما يظن أنه قد جعل حياته أسهل وأكثر تطورًا إلَّا إنه في نفس الوقت قد سلب منه قدرًا كبيرًا من حريته واستقلاله وقدرته على التحكم الذاتي في نفسه.