عبد الوهاب البراهمي
“أين ستتيه؟” ( فرجيل)
“يجب على الفلسفة أن تعود إلى الشارع وتخرج إلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال أفلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ. الفلسفة لا تخص مشرّعين يقرؤون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أن تكون فيلسوفا يعني أن تتفلسف طوال الوقت” ( ميشيل أونفري).
الفيلسوف ” رحّالة ” من نوع خاص. لا يعنيه استكشاف الأمكنة بالضرورة ولا تغريه ” الأزمنة” الغابرة شأن المؤرّخ، بل يشدّه ” الرحيل” دوما إلى عوالم جديدة ، ولا تعنيه ” الإقامة” فيها وهو على نحو ما ” متشرّدا” ، ” صعلوكا” لا يملك غير ” شغفه” بالفهم. و لا يحذق سوى ” القول” ولكن فيما لا ينقال أو مالا يقدر الناس غالبا أن يتحدّثوا فيه. ذلك أنّه ” مغامر” يطلب سبلا ودروبا جديدة وينشد “أرضا” لم تطأها قدم الفكر من قبل أو لم ” تخطر” بالبال. هكذا هو دوما أو يكاد. ليس للفيلسوف حدود، ولا ينتهي القول لديه، يتكلّم في كلّ شيء ولكن على نحو يميّزه، بحيث لن نضلّ عنه ولن نخطأ السبيل إليه. نستهدي به إليه في “كل مكان و في أيّ مكان”. على صورة ” ديوجين ” ينيرنا ” بمصباحه” ويرشدنا إليه ” في وضح النهار” ، لنعثر عليه حيث لا نتوقّع وجوده ، حيث الأشياء المألوفة لدينا أو هكذا تبدو. حيث يحوّل المألوف إلى غريب، ويثير دهشتنا حينما يكشف فيه عن عمق لا نطاله ونحن الذين نقيم على سطح الأشياء. نعجب لقدرته على تثوير “الساكن” وإثارة الغبار عمّا ” أهملته” لا مبالاتنا بل وحمقنا الذي به نعيش.. فهو أشبه ” بالفنّان” يكشف عن الجمال في ” مشهد” مألوف قد نرى فيه قبحا حتّى . ولكنه ” يجمّله ” لنا حتى ” نعجب” به ونستمتع . كذا الفيلسوف يكشف لنا “الحقيقة” أو جانبا منها فيما نراه ” ساذجا”، تافها لا معنى له، فنتعجّب له ونندهش. ولا نملك غالبا سوى أن نرميه بالجنون أو ” السحر ” لغموض خطابه وعجزنا عن فهمه. يتحوّل ” اليومي” لديه ، برتابته وسذاجته ، إلى ” منبع” للفكرة، بل إلى مشكل يقوّض ” اطمئناننا ” بفعل ” استشكاله” ومساءلته. ونفض الغبار عنه.
لقد نشأت الفلسفة قديما في المدينة واقترن وجودها ” بالاستقرار” والتمدّن. وقد وضع الفلاسفة ” المؤسّسون” مراكز الاهتمام الرئيسية للفكر الفلسفي وذلك حينما حرصوا- وبشكل مخصوص سقراط وأفلاطون وأرسطو – على رسم حدود التمايز بين الفيلسوف والسفسطائي، بين الفلسفة والسفسطة. وهو التمييز الذي رسم معالم “صورة الفيلسوف ” بوصفه ” متأملا” يطلب الحقيقة بالبحث في مبادئ الأشياء وأصولها وينشد ” الحكمة ” في النظر والعمل. وإذا كان لهذه الصورة أثرها فيما بعد وربما إلى اليوم، فإنّ تاريخ الفلسفة قد شهد أيضا طفرات بل منعطفات أساسية تغيرت بموجبها صورة الفيلسوف ومهمّته ومعنى وجوده …ولم يكن ذلك هيّنا، إذ كان يعني” الجرأة” على التفكير خارج التقليد الفلسفي. نقول” جرأة” لأنّ الأمر يحتاج فعلا إلى قدر كبير من الشجاعة بل ” الجنون” كما يقول فوكو عن نيشته، حتى نقف قبالة تاريخ طويل نساءل أصوله ونعيد النظر فيه وربما نقوم بقلب مساره . ونطرح مهمّة التفكير فلسفيا على نحو آخر وفي موضوعات لم يسبق التفكير فيه. جميعنا يعلم خطورة ” موقف الشكّ الديكارتي ” وما آل إليه من مراجعة لأسس التفكير وانزياح الفكر إلى ” الذات” بوصفها “فكرا” مبدأ للتفكير في كل شيء حتى الإله ذاته. ولا يخفى على أحد أيضا أثر ” النقد النيشتوي الذي ضرب بمطرقته مشروعية الموقف الفلسفي في أسسه ” الميتافيزيقية ” والأخلاقية . وقلب مسار التفكير الفلسفي منهجا ومحتوى أيضا. ولا أحد ربما يجهل أيضا خطورة الموقف الماركسي في بلورة ” مهمة” جديدة للفلسفة ” في سياق الوجود الاجتماعي وحركة التاريخ الخ . وغير ذلك من ” المنعطفات ” التاريخية الأساسية التي طبعت مسار حركة الفكر الفلسفي في تاريخه الطويل. منعطفات غيرت “صورة الفيلسوف ” تغيرات متعدّدة ومتباينة بل ومتناقضة بين الأمس واليوم. وبالفعل فقد تغيّرت صورة” الفيلسوف ” اليوم من دون شكّ. وبات الفيلسوف على غير ما كان “موسوعيا” ، أو نسقيا يتحرّك ضمن ” مناطق تأثير كبرى” أو موضوعات حدّدها الفلاسفة تقريبا من زمن بعيد من أرسطو إلى كانط ، بتحديد مجالات التفكير الفلسفي وأسئلته الكبرى. وبات الفيلسوف المعاصر على أكثر من “صورة ” موظفا “كما يقول مارلوبونتي أو ” مثقفا” أو ” مفكّرا أكاديميا”الخ . غير أنّ الملفت للانتباه في المشهد الفلسفي المعاصر هو ظهور فلاسفة ” جدد” على صورة ” رحّالة” إن جاز الوصف؛ فلاسفة اختاروا شق طريقهم ضمن هذا المشهد بإثارة موضوعات تفكير ” جديدة”، ” مبتكرة”، وسلوك مسالك جديدة في ” البحث الفلسفي ” خارج نطاق ” التقليد الفلسفي” ، أي خارج ” مناطق تأثير كبرى” أو توجهات فلسفية كبرى من قبيل الظاهراتية والفلسفة التحليلية وفلسفة العلوم ونقد الحداثة وفلسفة الأخلاق والسياسة وفلسفة التاريخ وفلسفة الجمال الخ. غير أن ّ المقصود هنا بـ “الابتكار ” و” التجديد” في البعد الموضوعاتي أو ما عبرنا عنه ” بالترحال الفلسفي” ليس جهد ” التأسيس الفلسفي ” للتفكير في موضوعات الفلسفة ، فهذا جهد لا يمكن على ما يبدو أن يزاحم فيه أحد ” أفلاطون ” وأرسطو ” وكانط” وغيرهم من “الفلاسفة العظام” بعبارة برتراند رسّل ، بل هو البحث عن موضوعات ” أصيلة للتفكير الفلسفي” بمعنى عن موضوعات لم يسبق تناولها ” فلسفيا”. رغم أن الفلاسفة السابقين المؤسّسين ( أمثال أرسطو وغيره..) قد شرّعوا على نحو ما لهؤلاء الفلاسفة المعاصرين تناول موضوعات قد تبدو ” تافهة” غير ” جديرة بالتفكير فيها فلسفيا” أو هي ” خارج نطاق”الفلسفي ” وعلى “هامشه “، باعتبارها على هامش : المعقول” مثل الجنون كما يقول” فوكو”. فقد جاء في مؤلف جماعي تحت إشراف ” جان فرانسوا دورتيي بعنوان “فلسفات عصرنا ” ( ترجمة ابراهيم صحراوي – الدار العربية للعلوم ناشرون 2009- ص 58 ) هذا القول :” لقد سبقهم ( في طرح هذه الموضوعات..)على كلّ حال في هذا أسماء كثيرة ؛ فقد اهتم أرسطو في كتابه “تاريخ الحيوان”( في ترجمة لجانين بارتييه -غاليمار) بـ” تزاوج رباعيات الأقدام” وـ ” أمراض الحمار والفيل” .وعالج كانط الموضة والرفاه وكتب عن ” خنزير المكسيك المسكي” ( في كتابه أنتروبولوجيا من منطور براجماتي فران 1991) . وحتى نيشته ذهب في Ecce Homo هذا الإنسان” إلى أن القضايا المتعلّقة بالله والخلاص وبالآخرة ليست شيئا أمام قضايا أخرى أساسية أكثر في رأيه كالتغذية والمناخ وهو ما قاده إلى الحديث مطوّلا في الفصل المعنون بـ ” لماذا أنا ذكيّ كثيرا”. غير أن هذه الأسبقية في طرح مثل هذه الموضوعات لدى الفلاسفة السابقين ، لا يعبّر عمّا أسميناه هنا ” بالترحال الفلسفي” ، إذ كان تناول هذه الموضوعات ، ” هامشيا” ولا يشكّل دائرة اهتمام أساسية ولا يحظى بمؤلفات وكتابات فلسفية مخصوصة، بل كثيرا ما يندرج في سياق تناول موضوعات أساسية أو مسائل جوهرية كالمسألة الأخلاقية أو غير ذلك . بيد أن الأمر على خلاف ذلك لدى فئة من الفلاسفة المعاصرين ممن تميّزوا بهذا ” الترحال الموضوعاتي” ، من حيث أن ّ اختياراتهم الموضوعاتية يترجم في مقاربات فلسفية لموضوعات من ” اليومي” ومن الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية الخ خصّص لها هؤلاء مؤلفات بذاتها بل وعددوا التأليف فيها مثل ميشيل أونفري الذي يكاد يتميّز بهذا . إذ كتب أكثر من مؤلف تناول فيه مثل هذه المسائل. فضلا عن أن هذا الجهد في “التأصيل الموضوعاتي” قد يكشف عن رغبة في التحرّر من ” التقليد الفلسفي” بفتح ” آفاق جديدة” للتفكير الفلسفي، بـ”استكشاف” مواطئ قدم جديدة يمكن أن يتحرّك فيها الفيلسوف اليوم، كي ينوّع ويثري حقول التفكير “بفتوحات ” جديدة ما كان له أن يدركها لولا هذا “الترحال” الفلسفي وربّما هذا ” التشرّد” الفلسفي الذي بات أحد مظاهر ” الفعل الفلسفي اليوم” الذي يجلب الانتباه إليه ويشدّ كثيرا من المهتمين بالشأن الفلسفي.
وإذا كان علينا أن نبرّر هذا ” الترحال الموضوعاتي ” للفيلسوف اليوم ، فقد نردّه إلى عوامل عديدة نقتصر منها على ما هو رئيسيّ : ” دمقرطة” الممارسة الفلسفية في معنى حضورها على وجوه كثيرة، خارج أسوار ” المدرسة” ( المجال التقليدي منذ “أكاديمية أفلاطون ” للممارسة الفلسفية )، في مجال الحياة العامّة، في المدينة، ضمن ما بات يسمّى ” بالممارسات الفلسفية الجديدة ” كما يعبر عن ذلك ميشيل توزي مثلا ، وذلك من خلال ما يسمّى بـ ” المقهى الفلسفي ” أو غيره . إضافة إلى مزيد ” تعقيد وتركيب ” الواقع الراهن وتسارع حركة النموّ والتطوّر فيه على جميع الأصعدة وخاصّة على الصعيد التكنولوجي الرقمي، الأمر الذي خلق مشكلات وصعوبات ووضعيات معيشية جديدة تبدو “تراجيدية ” أحيانا كثيرة بالنظر إلى تأثيراتها العميقة في ” معيش الإنسان المعاصر ” بل في منزلته راهنا ومصيره مستقبلا . هذا ما يفسّر ربّما تغيّر ” صورة الفيلسوف” اليوم وتحوّل منزلته أو “موقعه” في علاقة بواقع البشر اليوم . وما يفسّر هذا الانزياح إلى ” المعيش ” لا في دلالته “الفينومينولوجية ” بالضرورة( في المعنى الفلسفي للفينومينولوجي كما عند هوسرل او مارلوبونتي ..) ، بل في ” مباشريته” وتخارجه أو تجسيده ” اليومي”. فليس من الغريب، والحال هذه، ازدياد الاهتمام بمسألة “اليومي” واستشكاله ” بعبارة الأستاذ محمد محجوب. على أن يفهم هذا ” اليوميّ” في معنى ” ما يعيشه الإنسان في يومه ” وما “يحدث” و”يظهر” منه وفيه ممّا يستحقّ ” أن نفكّر فيه” على نحو فلسفي بأن نستشكله ونُفَمْهِمه بحثا عن تأصيل فلسفي أو بالأحرى عن ” أصالة فلسفية ” تحوّله إلى ” موضوع فلسفي “محمّل بالمعنى. يندرج هذا الجهد طبعا في ” فعل التمعين” لواقع البشر كرهان فلسفي أصيل، بات أكثر إلحاحا اليوم بموجب شيوع ” ما سماه آلان دانو ” نظام التفاهة” ، تحت تأثير النزعة الاستهلالية التي غزت كل المجالات.
لقد أضحى للفيلسوف المعاصر ” حسّا إشكاليا عميقا ” بل وعيا عميقا ” “مأساويّا” ربّما بواقع البشر وبالحاجة إلى ” التفكير ” أكثر” و “أعمق” ربّما وخاصّة أكثر ” أصالة” في هذا الواقع. ولعل هذا الوعي الحادّ هو ما يقف وراء هذه النزعة إلى “الترحال الموضوعاتي ” التي باتت أشبه “بشغف” يميّز فئة من الفلاسفة اليوم . على أنه من الضروري أن نشير هنا إلى أن دلالة الواقع لا تعني ” واقع البشر عموما”، بقدر ما تعني أحيانا كثيرة ” واقعه المحلّي”، أي ما يعيشه الإنسان على نحو ” خصوصي” في جهة ما من العالم ، أو ما يظهر من ” مظاهر معينة ” في الحياة المدنية لجماعة بشرية معينة. على أن يتحوّل هذا “الواقع المحلّي” إلى موضوع استشكال فلسفي ليطرح من خلاله ” الفيلسوف” السؤال الفلسفي المركزي عن ” الإنسان”، عن الكوني الإنساني.ومنزلة الإنسان عموما. بهذا المعنى يتحوّل مثلا موضوع سينما” هوليود” كظاهرة في المجتمع الأمريكي، التي أصبحت أكثر من موضوع فنّي وتحولت إلى نمط “عيش” وبات لها أثرها عالمي طبعا، إلى ” موضوع تفكير فلسفي ” على أكثر من جانب : كأن تكون منطلقا للتفكير لدى ” ستانلي كافل” في البحث في مسألة السعادة في كتابه ” البحث عن السعادة – هوليود وكوميديا إعادة الزواج” ( 1981). وذلك من خلال قراءة وتحليل فلسفي لأعمال سينمائية مثل فيلم his girl friday” لهوراد ةهاوكس 1940. أوكأن تصبح ” النفايات وقاذورات الشوارع والأوساخ” موضوعا ” للتفلسف” مع سيريل هازي وفرانسوا داغوتييه”. وربما يكون هذا امتدادا لعناية ” جورج كانغيلام ” بمسألة ” البيئة ” من منظور ” فلسفي “.الأمر الذي يحملنا هنا على الإشارة إلى أنّ بعض الفلاسفة المعاصرين أيضا ( فضلا عن فلاسفة سابقين كما أشرنا) كان لهم سبق فيما يمكن أن نسمّيه ” تجديدا ” أو ” ابتكارا ” لموضوعات تفكير فلسفي لم يعهد ” الفلاسفة التفكير فيها ” كمسألة البيئة ومسألة ” الصحة والحمية ” و” الرياضة ” و” جمالية الجسد ” و” المرض” ، والتفكير في ” الرقميات” الخ. وقد يكون من الضروري الإشارة هنا، فضلا عن جورج كانغيلام “، إلى ” برنارستقلر ” ومقاربته الفلسفية ” للحمق ” مع ” دولوز” أيضا وتناوله بالذات ” المسألة التقنية في راهنيتها : مظاهر أزمة ” الانتباه ” وتأثير التكنولوجيات الرقمية والأنترنت في واقع البشر راهنا في كتابه الرئيسي ” نقد العقل التقني ” الخ ( الذي تناول فيه نقدا للموقف الفلسفي من التقنية والعقلانية التقنية التي تتحكم في الممارسة التقنية اليوم ). وإلى فئة من الفلاسفة المعاصرين تميّزوا خاصّة بما أسميناه ” الترحال الفلسفي ” وأعني بالذات ّ جاك داريدا وهو يكتب عن ” الموسيقى و” الكذب” و” الصفح ” وغير ذلك أو “ميشيل أنفري” وهو يفكّرّ فلسفيا في ” الصاعقة ” ” فضائل الصاعقة ” أو في ” شهوة العيش الجامحة والسرعة ” في كتاب ” يوميات متعية hédonistes journal”، دراسة العقل الشره” أو كتاب ” بطون الفلاسفة ” ( نقد العقل الحميي) ومدح حياة النبيذ والسيجار الجيد والحفلات والطبخ الجيّد والتأنق …”. كما يتناول أنفري موضوع الصاعقة والسحب أو الأحوال الجويّة من منظور فلسفي، فيتحدّث عن “فضائل الصاعقة” vertus de la foudre” كي يقترح أخلاقا للسرعة إذ يقول :” أحبّ السرعة – سرعات الصاعقة والبرق وثورة البراكين والأمواج العارمة وسرعة الوميض والخطف (…) كل مجانين السرعة محبون حدّ التعصّب للاشتغال وإفناء دواتهم.” ( يوميات مُتًعِية – الجزء الثاني 1998) يترجم أنفري بهذا عن تقديره لسرعة إيقاع حياتنا اليوم، خلافا للتقليد الذي يمدح التأني.
usage de la lenteur du bon”. بيار سانسوت: كتاب ” مديح التانّي” . أو كأن يتناول فيلسوف أمريكي اليوم ( ألفونسو لينجيس في كتابه “سحر الأعماق وإفراطات أخرى l’ivresses des profondeurs et autre excés) موضوع “الرحلة الفلسفية” ولكن بأسلوب” فلسفي” خاص يميزها عن أدب الرحلة المعروف.وذلك بإثارته بموضوع الغوص وما يعنيه، والسؤال عما يدفع الناس إلى الأعماق ؟ وهو سؤال فلسفي. والتنظير لأعماق البحر من منظور “ظاهراتي” (على نحو مبتكر غير ظاهرية مارلوبونتي والفونس لينجيس دارس لهذا الفيلسوف وللظاهراتية) متخيلا نظرة “الرجل – الضفدعة” للتعبير عن نظرة الفيلسوف في تأمله الخالص للأشياء دون التأثّر بها.
وعلى طريقة الفونس لينجيس، يتناول ألكسي فيلونينكو “ظاهرية الرياضي عالي المستوى ” في كتابه ” عن الرياضة والبشر” ، ميششالون 1999 وكتابه “أشكال القتل” حيث يتناول فلسفيا مسألة القتل وأساليبه الخ . ولنا أن نشير أيضا إل تناول مسألة ” اللعب ” من منظور فلسفي لدى كولاس ديفلو في كتابه ” اللعب والفلسفة” بيف 1997. حيث يتحدّث عن اللعب عموما وأنواعه كلعبة الحظّ والمال الخ . ويمكن أن نشير إلى فلاسفة آخرين طرحوا موضوعات غير منتظرة وخاصّة بأسلوب جديد ،مثل “يوجين ثاكر” وتشريحه للتشاؤم “تشاؤم كوسمي” في كتابه” infinité résignation لانهائية الخضوع”. وكذلك إلى دافيد لوبرتون ” في كتابه علامات هويّة” -ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، حيث تناول ظاهرة ” الوشم” على الجسد . دون أن ننسى الفيلسوف ” بيتر سلوتردايك” و” نقده العقل الكلبي” وقد ترجم كتابه هذا “ناجي العونلي” حيث تناول موضوع” الجوع” وغيره من منظور فلسفي. ولا يقتصر الأمر على فلاسفة رجال بل هو مدار الاهتمام لدى فلاسفة نساء (إن كان لهذا التمييز أهمية) أمثال “أدال فان ريث” في اهتمامها بمسألة “اليومي” بطريقة تمزج فيها بين الذاتي والموضوعي بأسلوب سردي ومن منظور فلسفي طبعا. فهي صاحبة كتاب ” الحياة اليومية” vie ordinaire غاليمار 2020. أو ” آن دوفور مانتال ” في كتابها ” المرأة والتضحية من انتيغون إلى إمرة الهامش ” حيث تناول ” قلق المرأة وتضحيتها من أجل أبناءها الخ .. وقد لا يسمح المجال لمزيد تعداد الأمثلة وتفصيل القول فيها ممّا يحفل به المشهد الفلسفي المعاصر من مؤلفات كثيرة لفلاسفة تميّزوا على الأقلّ بجرأتهم وطرافة ما يتناولوه من موضوعات قد تبدو في الظاهر تافهة ، هامشية غير جديرة بالاهتمام الفلسفي. غيرأنّ إثارتها اليوم والكتابة فيها كتابات فلسفية واعدة تعبّر عن رغبة في ” إعادة النظر في تاريخ الفلسفة وكتابته على نحو آخر( ميشيل أنفري مثالا ) في إطار ” مقاومة التقليد الفلسفي” والرغبة في ” التجديد ” كما أسلفنا القول. أليس هو( ميشيل أنفري) القائل :” ” يجب على الفلسفة أن تعود إلى الشارع وتخرج إلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال أفلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ. الفلسفة لا تخص مشرعين يقرؤون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أن تكون فيلسوفا يعني أن تتفلسف طوال الوقت: هذا هو التقليد الأنتيكي الذي أود العودة إليه والذي للأسف أخذ في التلاشي بعد صعود المسيحية. يجب القول إنني لا أعتبر أن المسيح كان شخصية تاريخية على الإطلاق- المسيح هو شخصية تبلورت في خيال الإنجيليين الذين لم يعرف كتّابها يوما المسيح، وبهذا خنق آباء الكنيسة الفلسفة التي دارت حول لحم هذا الشخص ودمه فصارت تمرينا وبحثا مجنونا في تفاصيل عجيبة، حيث تأتى عليهم إثبات تلك العجائب مثل الثالوث، القيامة والولادات العذرية. هكذا نحصل على ما يزيد عن عشرة قرون من الفلسفة رُسمت انطلاقا من الرغبة في إضفاء الشرعية على شيء لا يمكن إقراره. فلسفة الجامعات التي نعرفها هي تطوير لتقليد علم المسيحية لذا عندما تتحدث عن فيلسوف فرنسي- النظرية الفرنسية كما يقول الأمريكيون، وأعني فلاسفة مثل دولوز، غاتاري، ديريدا وليوتار الخ – فذلك له علاقة بأصحاب التنويم المغناطيسي تماما. مازلت أبحث عن زميل لي في الفلسفة او أي شخص آخر يمكنه أن يشرح لي مؤلف دولوز «آنتي أوديبوس/أوديب المضاد/الضد أوديب» . كتب فوكو عن الجنون انطلاقا من قراءاته في الأرشيف فهو لم يعرف حقيقة المجانين وواقعهم. وفي عودة أبعد إلى الوراء لدينا سارتر الذي أراد أن يحشد عمال السيارات في بيلانكور، لكن لا أحد منهم فهم ما قال هذا «المثقف الذكي صاحب النظارات» الذي لم يختلط يوما في حياته بعمال حقيقيين. إنه ليس التفكير، بل تمارين التكرار المستغلقة التي تعيد استخدام ذات الطروحات القديمة. أريد عوضا عن ذلك توفير هذه المدرسية، والتقليل من شأن النقاش بأجمله المليء بالمصطلحات الضمنية والثقيلة. لهذا أسعى في فلسفتي التاريخية القبض على التفكير الفلسفي الذي قام خارج هذا التقليد وعاداه.” (ترجمة: دنى غالي ، “آفاق فلسفية” أفريل 2020). يجسّد هذا النص هذه الرغبة وهذه النزعة إلى” الترحال الفلسفي” خارج” التقليد ” والذي بات كما أسلفنا القول ميزة فلاسفة معاصرين جدد.
وتجدر الملاحظة أن هذه الرغبة في ّ”تنويع وابتكار موضوعات تفكير جديدة ومغامرة السير في دروب تفكير جديدة لا تخص فلاسفة معاصرين بل تميّز كثيرا من ” علماء إجتماع ومنشغلين بالإنسانيات أيضا مثل ” ريمون بودون” بالخصوص، الذي ألف 150 كتابا في موضوعات متنوعة في الحياة الزوجية والأسرية وغيرها؛ واستنطاق بل ربما استشكال لم لا عناصر من الحياة اليومية للأسرة مثل “الجوارب أو حقيبة اليد، أو أواني الطبخ أو سرير الزوجية أو السان فالنتان أو أي شيء آخر”.( من مقال “الترحال الموضوعاتي – فوزي بوخريص – أكاديميا) .
غير انّه علينا التنبيه إلى أن ما يسمّى بالترحال الفلسفيitinérance philosophique وقد استخدم هذه العبارة بالذات ” أندريه كونت سبونفيل” وصفا لبعض ما كتب من نصوص عن نيتشه أو غيره ، ليس من قبيل ” الموضة” ( التي والحق يقال قد غزت حتى مجال الكتابة الفلسفية وسمحت بظهور موضات تتصل بالممارسة الفلسفية من قبيل ” العلاج بالفلسفة ” أو غير ذلك ..)وصار ” الحديث في الفلسفة ” أو عنها في وسائل الإعلام العمومية ووسائل الاتصال مظهرا من مظاهر ” التأنق” الاجتماعي – إن صحت العبارة- و الحياة ” البورجوازية ” أو جانبا من حياة ” الديمقراطي” اليومية كما يذكر ” آلان باديو” . بل إنّ الأمر يتعلق بتوجّه في غاية الأهميّة بالنظر إلى خطورة ما يطرح من ّموضوعات” لئن كانت غير منتظرة وغير مألوفة ، فذاك لأنّها تطرح من منظور فلسفي بالذات. ألا يتميّز الفلسفي تحديدا ” بجعله المألوف غريبا”؟ا أم يقل أرسطو بأنّ ّ الدهشة بداية الفلسفة”؟ا الحقّ أنّنا ندخل مجال ” الفلسفي”حينما نفكّر على نحو آخر “( كما يقول فوكو ) ، خلافا لما اعتدنا التفكير فيه أو فيما لا نرى ” جدارة التفكير فيه ” أصلا.
*************