المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

بروسلي بوحنيفية وتوالد أيقونات القتال الجزائرية

 بقلم: سمير عباس 

1) تمهيد: عرفت السينما العالمية منذ القرن الماضي تألق نجوم في الفنون القتالية أسرت قلوب الجماهير العريضة عبر أرجاء المعمورة، ومن هؤلاء النجوم الأشد تألقا مثل الصيني الأمريكي بروسلي ظاهرة قتالية عجيبة عبر مجموعة من الأفلام السينمائية خاصة فيلم قبلة التنين، ومنهم الأمريكي جان كلود فوندام الذي كان أداؤه القتالي والدرامي في شخصية سجين في أحد السجون الروسية مبهرا حقا، كما تألق عبر البث المباشر من حلبات المصارعة الأمريكية جون سينا عبر صناعة الحماسة في الفرجة، ومثل الجمهور الجزائري واحدا من عشرات الجماهير التي تعلقت بهذه النجوم، ونتج عن هذا التعلق تألق نجوم محليين نسخ عن النجوم العالمية عبر وسائط التواصل الاجتماعي منذ العام الماضي 2022، وسرعان ما حظيت هذه النسخ الجزائرية بإعجاب الجزائريين مشكلة الترند المفتوح. 

2) فوندام بلعباس والمؤول الديناميكي: 

    تمثل السيميائيات حقلا علميا قيد التطور يدرس العلامات، فكل علامة تعرض ماثولا أي شيئا ماديا أو أمرا معنويا يحيل على موضوع وفق السيميائي الأمريكي تشارلز ساندرس بيرس، وإحالة الماثول على الموضوع تتم في الذهن البشري بوساطة وجهة نظر معينة تسمى المؤول، فإشارة المرور (قف) هي ماثول يحيل على موضوع وجوب توقف السيارات، وهذه الإحالة تتم من خلال مؤول هو قانون المرور، والمؤول قانون المرور في هذا المثال يسميه بيرس مؤولا نهائيا يصل إليه الذهن عبر عملية انتقاء للمؤول المناسب تسمى المؤول الديناميكي، فالمؤول الديناميكي لدى بيرس بالإمكان فهمه على أنه تساؤل ذهني لاشعوري عن وجهة نظر لتحديد موضوع معين للماثول المعطى. 

    ظهرت في العام الماضي عبر وسائط التواصل الجزائرية مقاطع فيديو لشخص رياضي من مدينة سيدي بلعباس غرب الجزائر، وعرف الناس سريعا أن الأمر يتعلق بنسخة جزائرية للنجم فوندام من خلال تمثيليات قصيرة تظهر تفوقه القتالي، وهو تفوق تمثيلي بحت على الرغم من البنية الجسدية القوية لفوندام بلعباس، وتم بوساطة وسائط التواصل تشكل تواضع ضمني ساخر على أنه بطل حقيقي من أبطال الفنون القتالية، وتبعا للمواضعة القديمة التي صنعتها السينما الأمريكية فالبطل القتالي لا يعيش حياة هادئة ولا بد له من تحد قتالي يرفعه في وجوه الآخرين، و بهذه الطريقة تم دمج المواضعتين سابقتي الذكر في مواضعة أخرى تقول بالتحدي الذي يشهره فوندام بلعباس في وجوه الآخرين، وصار فوندام بلعباس ماثولا يحيل عبر مؤول التحدي إلى خصم غير معروف بعد في تلك الفترة، ولهذا ظل موضوع هذا الماثول غير محدد وكان المؤول ديناميكيا سابحا عبر أرجاء القطر الجزائري.

3) بروسلي بوحنيفية والمؤول النهائي: 

    على غرار ما هو مألوف في السينما الأمريكية من سرعة في قبول التحدي المرفوع من قبل شخصيات قتالية أخرى، حدث بشكل سريع مثير للعجب ظهور بروسلي بوحنيفية، وبوحنيفية منطقة تقع أيضا في الغرب الجزائري، حيث ما فتئت تتوالى مقاطع فيديو في وسائط التواصل تظهر شخصا رياضيا قتاليا آخر كاشفا عن نصف جسده العلوي كما اشتهر بذلك النجم الأمريكي بروسلي، وأظهرت الفيديوهات بروسلي بوحنيفية يقبل تحدي فوندام بلعباس بشكل استفزازي تمثيلي رافقه عرضه لتمارين رياضية شاقة تظهر لياقته البدنية العالية من قبيل جره لعربة حصان تقليدية تحمل أثقالا، إضافة إلى حركات رياضية قتالية رشيقة تبين قدرته على قبول التحدي. 

    بهذه الصورة يتحول مؤول التحدي الديناميكي الذي يبحث عن موضوع للماثول فوندام بلعباس إلى مؤول نهائي من خلال تحدد موضوع هذا الماثول في شخص بروسلي بوحنيفية، وتصير بهذا أقطاب العلامة مكتملة بوجود الماثول والمؤول والموضوع، و يبدو أن اكتمال هذه العلامة مثل دفعا قويا لهذا الترند الجزائري في التألق والاستمرار لزمن أطول عوض أن تقتله الرتابة ببقاء المؤول ديناميكيا، وربما كانت طبيعة البشر ميالة إلى تجاهل العلامات التي يجهلون مواضيعها بحكم ميلهم إلى العلامات الجاهزة المتداولة، وطبعا يشذ عن هذه الطبيعة البشر المبدعون الذين تتحفز العلامات في أذهانهم دافعة إياهم إلى التفكير الدؤوب في مواضيعها.

4) جون سينا باتنة وتوسع دائرة المؤول: 

    تمخض عن انتشار مقاطع الفيديو التي تبادل فيها فوندام بلعباس وبروسلي بوحنيفية دور الخصم العنيد تألق ساخن لتمثيليات التحدي القتالية التي تلقاها الجمهور الجزائري بحماسة ساخرة شديدة متماهيا معها على سبيل التسلية وصناعة الفرجة، وصارت الجزائر البلد القارة موطنا لأيقونات قتالية مستنسخة عن السينما العالمية، وفي مبادرة لفتح آفاق هذا التحدي ظهر جون سينا باتنة من شرق الجزائر كموضوع ثان لمؤول التحدي النهائي، والأمر اللافت للانتباه هو تمايز هذه الأيقونات من حيث أساليب القتال، فالقتال الاستعراضي لفوندام يتميز عن قسوة التدريب لدى بروسلي، وكلاهما مختلف عن صخب التحدي في حلبات المصارعة مع جون سينا، كما أن الأيقونات الثلاثة صارت تتنازع عبر مواقع التواصل أدوارها في العلامة، فكل شخصية من الثلاثة هي مرة ماثول يحيل على الشخصيتين الأخريين كموضوعين لها في آن واحد عبر مؤول التحدي، ومرة أخرى يتراجع دورها إلى وضعية الموضوع، فيتشكل من الشخصيات الثلاثة سيميوز دائري يدور حول مؤول وحيد هو التحدي. 

    يلاحظ بشكل واضح أن ظهور الخصمين الذين يقبلان مواجهة التحدي المشهر من الخصم الثالث هو أمر يعمل على استقرار المؤول الديناميكي في مؤول نهائي محدد، ولكن على الرغم من ذلك فإن تألق ترند الأيقونات القتالية الجزائرية يعمل في الوقت ذاته على فتح إمكانية لتحد جديد وإعطاء نفس آخر للمؤول الديناميكي في سعيه الدؤوب باحثا عن خصوم آخرين، ويتجلى هذا الأمر مع مقطع فيديو لشخص طويل قوي البنية غير رياضي من صحراء الجزائر وهو يرفع التحدي من جنوب البلاد من خلال طرحه جملا صغيرا (حوار) أرضا بحركة سريعة للغاية. 

5) خاتمة: 

    تبدي السيميائيات مرونة كبيرة في دراسة الظواهر الاجتماعية التي تنتشر بشكل واسع عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ولا تمنع هذه المرونة التي تبديها من الحصول على قراءات منسجمة لهذه الظواهر، ومن جهة ثانية يبدو أن المحاولة الجادة لدراسة هذه الظواهر سيميائيا هي طريقة ناجعة في تمثل وفهم أفضل لمصطلحات السيميائيات وآلياتها الإجرائية، فالظاهرة تمثل المحك الذي تختبر بوساطته موضوعية التنظيرات الدراسي.

طالب دكتوراه في الأدب العربي الحديث جامعة عنابة الجزائر وعضو دولي في مختبر بنغازي للسيميائيات وتحليل الخطاب ليبيا.