المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

عبد الفتاح كيليطو: المعرفة اللَّعبِيَّة

أجرى الحوار محمد لفتح
ترجمه إلى العربية عزيز لمتاوي

تقديم المترجم
​عبد الفتاح كيليطو اسم يصعب تصنيفه في خانة واحدة، كما هو الحال بالنسبة إلى كُتبه، حيث يحضر النقد إلى جانب السرد، والحكاية بشخوصها وأحداثها وفضاءاتها وتموجاتها وصراعاتها التي تفضي بك، في نهاية المطاف، إلى خاتمة تجعلك تحس بالألم أو اللذة أوهما معا، وتقودك إلى “التطهير” والصفاء الذهني، إلى جانب الدراسة ببنائها الأكاديمي العالِم ومصطلحاتها الدقيقة ودروبها الوعرة وصياغتها العقلية…هذا هو عبد الفتاح كيليطو في الدرس، في الحياة، وفي الكتابة…والله إن حكايته لعجيبة! لنستمع إلى بعض فصولها في هذا الحوار!

استهلال محمد لفتح
​هل اسم كيليطو هذا من أصول أندلسية؟ قد يكون كذلك.. يجيبني الرجل الذي يحمله، وهو مستمتع على نحو مبهَم بهذا السؤال الأخير الذي كنتُ قد طرحته عليه، وأنا على وشك اجتياز عتبة شقته، عند انتهائي من إجراء هذا الحوار.
​” القراءةُ شكلٌ من أشكال السعادة”، يقول خورخي لويس بورخيس. والأمر ذاتُه ينطبق على تجاذب أطراف الحديث في بعض المناسبات النادرة والمميَّزة. أنا أترجِم هنا ما مَثَّلَ بالنسبة إليَّ شكلا من أشكال السعادة لبضع ساعات.

نص الحوار
قمتَ في عام 1982 بنشر دراسة بعنوان” الأدب والغرابة”. وقد أكَّد عبد الكبير الخطيبي حينها، في مقدمته لهذا العمل، الجِدَّةَ غير المسبوقة التي تسِم مقاربتكَ الأدبَ الكلاسيكيَّ (l’adab classique) والمتعةَ المزدوجة التي تمنحها القارئَ. متعةَ اكتشافِ، أو إعادة اكتشافِ، المؤلفين الذين حلَّلْتَ أعمالهم وفق منظور جديد، ومتعةَ قراءتكَ ذاتَكَ.
ومع ذلك، فإنك لم تنشر روايتكَ الأولى” خصومة الصور” إلا في أيامنا هذه. سؤالي هو: لماذا لم يُفصِح الروائي كيليطو عن نفسه إلا الآن؟

بدايةً، لست أدري ما إن كان بإمكاني اعتبار “خصومة الصور” رواية.
بالفعل، لقد وصفتموها في مقدمتكم لها بـأنها “نثر سردي“.
حسنا. لماذا الآن فقط؟ كما تعلمون، ثمة حتى في دراساتي اشتغال على الأسلوب. وبهذا، تتسلل إليها بعض القصص، وهناك قصص أختلقها أو أعيد كتابتها. وفي السياق ذاتِه، فإن خاتمة كتاب ” الكتابة والتناسخ “، هي قصة، هي عبارة عن نص أدبي.
أنا أتفق معك تماما.
وعندما نفكر في الأمر، نجد أن هناك رابطا، علاقةً تقوم بين الدراسة وهذه الخاتمة الروائية، ذلك أن الفصل المعنون بـ “رسالة من وراء القبر”، يمكن اعتباره قصة، ولكن أيضا دراسةً تحترم قواعدَ هذا الجنس الجامعيةَ، لأنني أدْرسُ فيه نصَّ مؤلِّفٍ من القرن الحادي عشر.
خلافا لذلك، توجد في العمل الروائي، الذي نشرتَه للتو، العديدُ من الفقرات، والمقاطع التي تتصل بالدراسة.
بالضبط.
هذا يقودني إلى استحضار ميلان كونديرا، الذي يدعو بِحق إلى “فنِّ دراسةٍ يكون تحديدا فنا روائيا “.
في الواقع، يمكنني أن أقول بأني أتنقل بين الطابع الروائيِّ، لا الرواية، وبين الدراسة.
وهذا بالضبط ما يمنح كتابتكَ هذا الطابع الذي لا يمكن مضاهاته، هذا الطابع الجامعي والأكاديمي في الآن ذاته، ولكن المتميزَ دوما بحضور المظهرِ اللَّعِبي.
صدقني، لن أكتب دون حضور هذا المظهر.
الكتابة، بالنسبة إليك، هي متعة قبل كل شيء؟
بالتأكيد! ما جدوى أن نكتب إذا لم نلعب بالكلمات وبالصور والذاكرة في الآن ذاته…
أود أن أستشهد مرة أخرى بكونديرا الذي بالنسبة إليه ” يتألف الطابعُ الوجودي لشخصية معينة من كلمات-مفاتيح “. هل توافقون على أن هذا الأمر ينطبق على كتاباتكَ الخاصة؟
لا ينبغي على الكاتب أن يعرف دوما كلماته-المفاتيح.
أتحدث عن كيليطو مُحلِّل النصوص الأدبية.
جيد! بما أنك تستحضر كونديرا، دعني أتحدث عن كتابه: “الخلود”. هل هو رواية؟ إن ثلاثة أرباع هذا الكتاب تتصل بالدراسة. وهذا المظهر الأخير، والتصورات التي يُطورها كونديرا، الكاتبُ الذي أنا معجب به، هي التي تهمني أكثر في كتاب “الخلود”.
إليك، فيما يتصل بالكلمات دائما، البرنامجَ الذي اقترحه شارل بايي: ” تُعَد دراسةُ الكلمات عملا فكريا”. عندما نرى كيف تدفعنا العودة إلى قاموس ” لسان العرب” لابن منظور -قصد جرد المعاني المختلفة والمتقاربة لكلمة معينة، والتحليلات ذات الصلة التي يمكن استخلاصها منه-إلى القول بأنك تقدم أفضل مثال لانتشار البرنامج الذي اقترحه شارل بايي.
-نعم ، تَفتحُ دراسةُ الكلمات آفاقا لم تكن في الحسبان، ذلك أن لسان العرب ليس قاموسا فحسب بالمعنى المتعارف عليه للمصطلح، وإنما هو أيضا، إن صح القول، كنزٌ فكري، أسطوري…
كيف ذلك؟
لنأخذ على سبيل المثال كلمة “شمس” في هذا القاموس. ستجد أن هذه الكلمة-التي ترادفها كلمة غزالة-تمتلك قرنين مثل هذه الأخيرة. لذا، تسأل نفسك السؤال الآتي: ما الذي يُسوِّغ هذا الربط؟ وليس هذا كل ما في الأمر؛ هناك أيضا الفعل غَزَلَ، نسَج، والنَّسْج له صلة بالكتابة.
هذا الربط يبدو جليا أكثر في الكلمة الفرنسية “نص”، المشتقة من الكلمة اللاتينية ” textus، التي تعني النسيج واللحمة.
لا نعثر على هذه العلاقة بين النَّسج والكتابة عند اللاتين فقط، وإنما نجدها أيضا عند أفلاطون وعند العرب. كما ترى، هذا هو ما أسميه اللعب بالكلمات.
هو لعبٌ، غير أنه يَفتح، كما قلتَ منذ لحظةٍ فقط، آفاقا لم تكن في الحسبان.
إنه لعبٌ، لكنه لعبٌ محفوفٌ بالمخاطر. يمكن أن يكون اللعبُ بالكلمات عقيما على الإطلاق، لكننا نصل أحيانا إلى نتيجة مُرضِية، ربما لن تكون مُرضِية للعقل، وإنما قد تكون مرضية للخيال.
ألا ينبغي أن يكون هذا اللعبُ الذي من المحتمل أن تقوم به الكلمات فيما بينهما لعباً سهلا، وكذا هذا البحث عن الروابط الرفيعة، والخفية، والغريبة التي قد تقوم بينها؟
كان پول ڨاليري يقول: “الشَكْلُ مُكلِّفٌ”.
يُشَكل الأدب العربي الكلاسيكي (L’adab arabe classique) مجالَ أبحاثكَ المتميزَ. هل يتطابق هذا الأدبُ [adab] مع ما نسميه اليوم [littérature]؟
لا يتطابقان على الإطلاق! استنادا إلى الباحثين، فإن الأدب[littérature]، كما نتصوره اليوم، بدأ في الغرب أواخر القرن الثامن عشر. ثم انتشر هذا التصور الغربي أو الأوروبي للأدب[littérature] في العالم العربي. أما مفهوم الأدب [Al adab]، فهو مفهوم آخر، وهو مرتبط بشكل وثيق بغاية تعليمية؛ بتعليم يوَد أن يكون، إلى جانب ذلك، مُسلِّيا. قد يكون هذا هو مَكْمن الفرق الكبير بين adab وlittérature. بالنسبة إلى أدب [littérature] لم نَعد نَقبل اليوم بالنزعة التعليمية. وبمجرد أن يسعى مؤلفٌ ما إلى أن يكون تعليميا، فإنه يُصبح مملا، ومرفوضا. كان القدماء ينظرون إلى الأمور بشكل مختلف، فقد كانوا يرغبون في أن يكونوا ناقلي محتوى تعليمي بطريقة صريحة. بالنسبة إليهم، لم يكن يُعَدُّ نصَّ أدبٍ حقيقيٍّ، كلُّ نص لم يكن ينطوي على درس.
يُقدم محمد أركون في كتابه “الفكر العربي” تعريفا تركيبيا يضم مختلف دلالات كلمة أدب [Adab]، كيف تُحددون ذاتكُم بالنظر إلى هذا المؤلِّف؟
لقد اشتغل أركون كثيرا على مفهوم أدب [Adab]، وكتب، على وجه الخصوص، أمورا مثيرة للاهتمام عن الأدب الفلسفي [l’adab philosophique]. واستفاضَ في شرح هذا الجنسِ التوحيدي ومسكويه على سبيل المثال. وقد ازدهر في القرن العاشر، ومازال يستوقفنا حتى الآن.
أعتقد بأني لن أجانب الصواب إذا ما قلت بأن أدب الجاحظ هو الذي سيكون أقرب إلى قلبك بدلاً من هذا الأدب الفلسفي.
نعم، الجاحظ مؤلِّفٌ يُسليني، وأحبُّ أن أقرأه وأن أعيد قراءته.
هل الجاحظ مسلٍّ فقط؟
بالطبع لا! وإلا لن يكون أديبا [un adib] بالمعنى الكلاسيكي للكلمة إذا ما كان مسليا فقط؛ أي مؤلِّفا يجب أن ينطوي أدبُه بالضرورة على غاية تعليمية. لكنَّ تعليم الجاحظ هنا تعليم لَعِبي. لقد عرَّفه أحد معاصريه بهذه الطريقة “يفعل الشيء ونقيضه”. هذا هو الجاحظ.
ألم يكن يهابُ التناقضَ؟
إن كلَّ ما يقوله الجاحظ قائمٌ على ما تُسمونه التناقض، وهو تناقض قد يكون فنا؛ فنا ضاعَ لسوء الحظ مع الجاحظ. إن مظهر التناقض في عمل الجاحظ لا يُعَد عيبا، إنه مؤشر لدى هذا المؤلِّف على الرغبة في النظر إلى فكرة أو مسألة أو شخصية، من زوايا مختلفة، وتحت إضاءات متعددة.
تَحدثنا في بداية هذا الحوار، عما يسميه كونديرا “الكلمات-المفاتيح”. تنبثق من كتاباتك، فيما ما أعتقد، هاتان “الكلمتان-المفتاحان”: “العتبة “و” الغرابة “.
الغرابة، ولكن أيضا: الغرب، الغروب والمغرب؛ اسم بلدنا. إذا كنا نعيش، منذ قرن من الزمان، في الغرابة، ألا يعود ذلك إلى أننا كنا مُجبَرين على الحوار مع الغرب؟
وكلمة “عتبة”؟
ما إن نعْبر عتبةً معينة، حتى نلج، بصورة أو بأخرى، مجال الغرابة.
بصيغة أخرى، هل تُعَد الكلمتان-المفهومان، مرتبطتين ارتباطا وثيقا؟
نعم. منذ لقاء العالم العربي مع الغرب، ثمة عتبة عُبِرت. وأصبحنا ننظر إلى بعضنا بعضا من كلا الجانبين.
تماما كما يحدث حين النظر في المرآة. هذا يُذكرني بعنوان أحد نصوصك: “ابن خلدون والمرآة”. ألا يمكن أن تكون كلمةُ “مرآة”، واحدة من كلماتك-المفاتيح أيضا؟
المرآة تعكس وجهنا، ولكن ثمة مرايا أكثر فظاعة.
مثل: الآخرون؟ الآخر؟ الغرب؟
ربما بالتأكيد … أليست كلها مرايا مشوِّهة؟ هناك لعبة مرايا يَصعُب جدا تحديدها.
أنت تعرف السحر الذي تمارسه المرايا على الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. ألا تعتقد معي أن هذا الكاتب لا يمكنه أن يمر دون أن يثير اهتمامك؟
أنت محق في ذلك تماما. كَتب بورخيس الكثير عن الثقافة العربية، بما في ذلك نصوصا عن ألف ليلة وليلة، وأعتقد أنه قد تَمكن-من خلال قراءاته غير المستفيضة بما أن ذلك لا يدخل في مجال تخصصه-من إدراك روح الثقافة العربية. وهذا يمنح عملَه طابعا خاصا لا نعثر عليه لدى مؤلفي أمريكا اللاتينية الآخرين.
أليس من الأهمية بمكان دراسة نصوص بورخيس التي تتصل بالثقافة العربية الإسلامية؟
طيب! أُشرف حاليا على أطروحة لنيل دكتوراه الدولة حول هذا الموضوع بالتحديد. أطروحة عن علاقات بورخيس مع المشرق عموما، ومع العالم العربي بالخصوص.
سأنتقل مباشرة من بورخيس إلى البلاغي العربي الكبير، الذي كَرَّستُم له نصا بعنوان: “الجرجاني ورواية الأصول”، غير أن هذه العبارة “رواية الأصول”، والتي يترجِمها بعضُهم بـ “رواية العائلة”، هي مفهوم نحته فرويد، سؤالي هو: هل تعتمد في تحليلك النصوصَ على المساهمة التي يقدمها التحليلُ النفسي؟
لا يمكنني تجاهل مساهمة التحليل النفسي، فهو يعلمنا-وخاصة كما أعيدت صياغته نظرية وممارسة من قبل لاكان-بأنه ينبغي علينا أن نأخذ الكلمات على محمل الجد.
كتب مالرو جملة جميلة جدا في مكان ما، حيث يقول “ينهض التاريخ بالأساس على النسيان”، ماذا عن الأعمال الأدبية بهذا الخصوص؟
النسيان يكتسي أيضا أهمية قصوى فيما يتعلق بالإبداع الأدبي. سأحكي لك نادرة عن أبي نواس. سيذهب هذا الأخير لملاقاة خلف الأحمر الذي كان آنذاك معلمَه، ليُخبره عن رغبته في أن يصبح شاعرا. فأمره بأن يحفظ عن ظهر قلب ألف قصيدة. فاستجاب لذلك، وبعد مرور فترة من الوقت، عاد عند معلمه واستظهر عليه الألف قصيدة. حينها قال له معلمه: ما يجب عليك الآن فعله هو نسيانها. العبرة من هذه النادرة: لا يمكن للإبداع أن يتحقق إلا على خلفية النسيان. دون نسيان، لا يمكن أن يكون ثمة أي إبداع، ولكن سيكون هناك التكرار فقط.
إذن، فقد أتت نصيحةُ خلف الأحمر أُكلها، لأنني أعتقد أنك تضع أبا نواس في منزلة شعراء العرب العظماء؟
إنه واحد من أعظمهم لأنه مارس فن النسيان بالتحديد.
يمكننا التساؤل ما إن كانت الحكاية صحيحة أم اختُلِقت؟
هذا لا يهم! هذه القصة جميلة إلى درجة لا يمكنها أن تكون إلا حقيقية.
وفيما عدا أبا نواس؟
أنا أحب المتنبي شأني شأن كل الناس، إذ لا وجود لمن يضاهي نفَسَهُ الشعريَّ.
الاسم الثالث.
المعري.
هل يمكننا نعت شعره بالفلسفي؟
من المؤكد أن هناك خلفية فكرية وفلسفية جد واضحة لدى المعري، ولكن ثمة أيضا، وبالخصوص، سخرية.
السخرية لدى المعري؟ الرجل الأعمى الذي حبس نفسه في المنزل لمدة أربعين عاما، والذي صاح بأعلى صوته في قصيدة شهيرة أن والده قد “جنى” عليه حين أتى به إلى هذه الحياة.
بالفعل! لكن كل هذا كان يسير لديه بالموازاة مع فن السخرية، وهذا موضوعٌ لم يُدرَس بَعد.
هل يمكنك أن تعطينا مثالا عن فن السخرية هذا؟
في يوم من الأيام، في بغداد، دخل المعري إلى منزل شخصية من علية القوم، وتعثَّر في أحد الضيوف الحاضرين. صرخ هذا الأخير: من هذا الكلب؟ رد عليه المعري في الحال: الكلبُ هو الشخص الذي لا يعرف سبعين كلمة مرادفة لكلمة كلب… في الأدب، يجب أن تكون الأفكارُ-لا أدري كيف سأعبر عن الأمر-بَصَماتٍ عن السخرية. السخرية ليست سلبية بالضرورة. السخرية هي أن تترك مسافات مع فكرة معينة. تمتلك الدراسة الجامعية قوانينها واشتراطاتها، لكن الأديب (littérateur) يمتلك حرية تامة يمكنه استثمارها ليكون ساخرا.
تُحيلنا كلمة الأديب هذه، التي استخدمتَها للتو، على المرسَل إليه لما يكتبه هذا الأخير [الأديب]، على القارئ. في العديد من نصوصك، تتناول مشكلة القراءة، وفي رأيك، فإن المأزق الذي يواجهُه بعض الناس، أمام هذا النشاط، يعود في الأصل إلى مرحلة الطفولة المبكرة. هل بإمكانكم التوسع في هذه النقطة؟
لكي تصبح قارئا جيدا، يجب عليك أن تتخلص في مرحلة معينة من الأستاذ، بل والأفضل من ذلك، عليك أن تتخلص من المعلم قبل أن تتخلص من الأستاذ.
إذا فهمتك جيدا، فإنه يجب “قتل” هذه الصورة، قتل هذا الذي يقوم مقام الأب: المعلم، قتله بالمعنى الرمزي الفرويدي بالطبع.
نعم. لذلك عليك التخلص من المعلم والذهاب مباشرة إلى النص. البعض لا ينجح أبدا في إحداث هذه القطيعة. يستمرون طوال حياتهم، في ربط القراءة بسلطةِ المعلم المطلقةِ. قد يصبحون مهندسين وأطباء وأُطرا رفيعةَ المستوى، لكنهم لن يجرؤوا أبدا على الدخول إلى كتاب أو إلى رواية.
نَعلم، من خلال مقطع سير-ذاتي، أن القراءة لم تكن موطنَ قوتكَ عندما كنت تلميذا.
بالفعل. في الواقع، لقد تزامن حبي للقراءة مع اكتشافي القصص المصورة: Miki le Ranger، Bleck le Roc…
أنت تذكرني هنا بقراءات فاتنة تأسر الألباب.
بالطبع، بالطبع Bleck وRoddy وProfessor Occultis وMiki وSaignée وDouble-Rhum، هم أصدقاء رائعون، وسيظلون دائما أصدقاء حميمين لأشخاص من جيلنا. إذن في البداية كانت القصص المصورة، وفيما بعد، وجدت نفسي ذات يوم، بصورة طبيعية وبشكل تدريجي، أقرأ أول رواية مصورة: “آخرُ الموهيكانز” بقلم فينيمور كِبِّير.
هل كانت ألف ليلة وليلة من بين قراءاتك الأولى-هذه التي ستغذو فيما بعد مصدر إلهام لكَ في العديد من التحليلات الرائدة؟
لقد كنتُ في العاشرة من عمري عندما قرأت ” ألف ليلة وليلة” في طبعة بيروت التي تقع في سبعة مجلدات. وكانت طبعة محتشمة، حيث حُذِفت ومُحِيت منها جميع المقاطع الجنسية المثيرة. كما تعلم، أصبحَت ألف ليلة وليلة دُرجَةً. هكذا، أنجز كل من أندري ميكيل وجمال الدين بن الشيخ في فرنسا دراسات تكتسي أهمية قصوى، بالإضافة إلى أنهما يقومان أيضا بإعداد ترجمة لصالح سلسلة لاپلياد ذائعة الصيت.
لماذا كل هذا الاهتمام؟
أعتقد أن هذا الاهتمام بدأ بِنص لتزڨطان تودوروڨ بعنوان: “الناس-المحكيات”(les hommes-récits)، في كتابه: “شعرية النثر”، الصادر عام 1966، فيما أعتقد. إنه نص قصير، لكن الجميع تأثروا به، لا سيما أن نشره تزامن مع تزايد الاهتمام بالتحليل البنيوي للمحكي. غير أنه إذا كان يُنظر اليوم إلى ألف ليلة وليلة على أنها تحفة فنية، فإنها لم تكن كذلك في الماضي. لم يلق كتاب المحكيات هذا لدى القدماء سوى الازدراء، لأن المحكي الخيالي لم يكن يحظى بسمعة طيبة، وبالخصوص لأن كتاب ألف ليلة وليلة كان مجهولَ المؤلِّفِ، والحال أنه لكي يحظى نصٌّ معين بالاعتراف في الثقافة العربية الكلاسيكية، كان يجب أن يُوقَّع من قبل مؤلف معترف بمكانته.
ماذا لو تحدثنا عن النصوص والروايات الحالية بطريقة عامة جدا وغير مباشرة. ما رأيك في هذه العبارة التي أدلى بها الكاتب والباحث الروماني المتوفى أخيرا إميل تْشوران: ” أنت ابن الرواية مثل أي إنسان”.
بالتأكيد أن الرواية تُقدم نماذج. نماذج من السلوك والحياة. ما أراد تْشوران قوله هو أن جزءا من مشاعرنا وسلوكاتنا هو ذو أصل روائي. إلى جانب ذلك، فهو ليس أول من قال ذلك، لنتذكر فلوبير على سبيل المثال. ما الذي ترغب فيه مدام بوڨاري؟ العيش مثل بطلة في رواية. ودون كيشوت أيضا. دون كيشوت هو ابن روايات الفروسية، ابن الرواية.
ربما أنت نفسك، عبد الفتاح كيليطو، ابن الرواية. لكنك ها أنت الآن ترتقي أيضا إلى منزلة “الأب”، من خلال “خصومة الصور” هذه، والتي ضمنتَها هذه الأبيات الشعرية لـ ت.س. إليوت:
” لن نوقف استكشافنا
وستكون غاية مسعانا الوصول
إلى من حيث انطلقنا
ومعرفة المكان للمرة الأولى.”
في ختام هذا الحوار، هل بإمكانك التعليق على هذه الأبيات؟

كيف يمكن للاستكشاف أن يتوقف؟ الاستكشاف الأدبي، استكشاف الموضوعات الوجودية والميتافيزيقية الكبرى. هل غاية الاستكشاف نهايةُ المسعى أو نقطة البداية؟ أهو أفعى تقضم ذيلها؟ لكن دعنا نقرأ السطر الأخير بتأنٍّ:
… ومعرفة المكان للمرة الأولى.
للمرة الأولى! ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني: لا يمكننا إدراك نقطة البداية والمكان الأصلي، بل يجب علينا خلقهما من جديد.

العنوان الأصلي لهذا الحوار: Le ludique savoirوقد نُشر مع حوارات أخرى (بلغ عددها ثمانية عشر) في أعداد متفرقة بكل من يومية Le Matin du Saharaو المجلة الأسبوعيةLe Temps du Maroc قبل أن تُجمع كلها في كتاب صدر بعد وفاته:
Mohamed LEFTAH, Plus loin avec…, Entretiens, Virgule Edition, avec le soutien de l’Académie du Royaume du Maroc, 2021, p.21-35.