تجربتي مع النّقاد كانت رائعة جدًّا وأستطيع القول إنّهم أنصفوني
يُعد الدكتور علي الدرورة حالة إبداعية خاصة وعلامة فارقة في المشهد الثقافي السعودي والعربي، فهو من المبدعين المتميزين ببحثهم عن الاختلاف في عالم الكتابة، وكتاباته تعكس فكراً معرفياً وفلسفياً غايته نشر الجمال والخير الإنساني. ضيفنا شاعر مرهف ومثقف مجتهد وباحث شغوف متعدد المواهب وصاحب قلم أنيق يعرف ماذا يريد.. يكتب بتدفق وسلاسة في الأدب والتاريخ والتراث والفنون والمجتمع ومجالات أخرى من الصعب الإضاءة عليها كلّها في حوار واحد نظراً لغزارة نتاجه الإبداعي. رفد المكتبة العربية بكتب الأدب المهمل ومنها (المسائل) و(الورد العاطر) كما أنجز 17 معجمًا منوّعًا في الأمثال واللهجات والأنساب والمهن الشعبية والمصطلحات البحرية، من إصداراته الشعرية نذكر: (همسات الأشواق) (أزهار الليل) (أغاريد المساء) (كأنه ضوء أسود) (كأنها عناقيد عنب) (عشقها مسك وعبير) (كأنها آلهة الورد) (عبق الريحان) وغيرها، ومن مجموعاته القصصية: (أيام اللوز) (تحدثك الوردة سهواً) (اسمها رقصة الأمواج) (كأنه شلال مسك)، ومن مؤلفاته أيضاً: رواية (أسوار الفحم) ومجموعة كتب عن (جائحة كرونا). المجلة الثقافية الجزائرية تبحر في عوالم المبدع د. علي الدرورة وتضيء على تجربته مع الكلمة من خلال هذا الحوار:
حوار: باسمة حامد متابعة: د. ليندا بوضياف
القصيدة وثيقة أدبية لا يعتريها التلف عبر العصور
المجلة الثقافية الجزائرية: لنبدأ منك. من الشاعر الذي غامر ودخل عوالم البحث والتاريخ.. كيف يمكن للقصيدة أن تتماهى مع المعرفة؟
د. علي الدرورة: في البدء لابُدّ لنا وأن نقرّ بأنّ القصيدة هي وثيقة أدبية، هذه الوثيقة لا يعتريها التلف عبر العصور أبدًا، ثم علينا أن نقرّ بأنّ محتوى تلك القصيدة معلومات مهمّة وضعت في قوالب أدبية، وكلّ قالب فيه سجل متكامل من الصور البديعة والبيان، وبذلك تبقى القصيدة خالدة أبد الدهر تتداولها الأجيال بكلّ كيانها وأحاسيسها ومقوّماتها.
إنني أؤمن بأنّ سبك القصيدة وتوالي الصور فيها؛ يعود ذلك لضلوع الشاعر الذي وضعها ويعكس مدى عمقه الثقافي. وإنّ القصيدة المتكاملة في جميع جوانبها هي دلالة واضحة على تعدّد ينابيع المعرفة لأيّ شاعر، وبلا شك فالنّاقد يكتشف ذلك بحدسه أو بعين الفاحص وهو يعرف جيّدًا من خلال كثافة الصور وتواليها في أيّ قصيدة وبأيّ نسق كانت.
الكتابة متعة علمية لا يوازيها أيّ عمل
المجلة الثقافية الجزائرية: لعل ما يلفت الانتباه في تجربتك الإبداعية الكثافة والتنوع، لكن ما الكتابة بالنسبة لك: عبء ثقيل أم متعة لا تقاوم؟!
د. علي الدرورة: تزخر تجربتي الإبداعية بالتنوع الثقافي المفتوح، ففي التاريخ والأدب والتراث (البحري والزراعي)، والشعر والرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا واللسانيات والمجتمع، والعمارة،والفلك، والفنون البصرية، والجريمة، والدين، وفنون ثقافية أخرى متنوعة، وقد ألّفت في كلّ باب وعلم من 5 كتب إلى 40 كتابًا في كلّ فنٍّ منذ عام 1984م وحتى الآن. وقد كنت محرّرًا متعاونًا في الصحافة الخليجية ردحًا من الزمن حتى توقفت عن النشر اليومي والأسبوعي سنة 2001م واستمرّيت ثلاث سنوات في نشر البحوث المحكّمة في الدوريات العلمية، وهذا يعني أنني توقفت عن النشر وبشكل نهائي في جميع القنوات الإعلامية سنة 2003م. وما ينشر في فترة الجائحة في الصحافة المصرية والسودانية أعتبره مواد أو مقالات عابرة أسلّي بها نفسي وقت الحجر (الحلس)، وهي بناءً على طلب الأصدقاء من الإعلاميين. وأنا أعتبر الولوج إلى الكتابة متعة علمية لا يوازيها أيّ عمل خاصة وأنّ رحلتي مع القلم بدأت مبكرة في سنّ السابعة عشرة، ومازلت ممسكًا بالقلم. وعند العودة إلى الكتب التي تم تأليفها عنّي فسوف تكتشف رحلتي مع القلم والإبداع خلال 43 سنة وما توصلت له من نتائج علمية وثقافية متنوعة.على أنني منذ تقاعدت عن العمل سنة 2016م، نذرت نفسي، وتضاعفت جهودي أكثر فأكثر في العملية الإبداعية حيث فرّغت نفسي تمامًا للبحث العلمي والكتابة بشكل عام.
المجلة الثقافية الجزائرية: د.علي الدرورة يُعتبر حالة فريدة في المشهد الثقافي السعودي نظراً لكثافة منجزه الإبداعي.. لكن ثمة من يرى أن (الأدب الاستعجالي) ينحاز للتأريخ أكثر من انحيازه للصور الإبداعية.. ما رأيك؟
د. علي الدرورة: الإبداع هو الذي يحكم على المؤلف وكتبي موجودة في كلّ مكان، وحتى لو لم تكن موجودة في كلّ مكان يكفيني فخرًا الدراسات النقدية الكثيرة التي صدرت من الذين درسوا نتاجي الثقافي، فهناك من العراق واليمن والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، ولا ننسى الخليج، ونصف هؤلاء لم ألتقِ بهم وجهًا لوجه حتى الآن. ولاشك أنّهم درسوا الإبداع الذي أنتجته بعين الناقد والفاحص والمدقق والمتخصّص، وهذا دليل على أنّ المواد تستحقّ الدراسة. ومن وصفني بالحالة الفريدة في الأدب السعودي هو الأستاذ خالد بن أحمد اليوسف، وهذا الكلام مدوّن في كتابه السنوي الذي يرصد فيه الإصدارات الأدبية للأدباء السعوديين وهو كتاب بيبليوغرافي بيبليومتري سنوي يصدر من جامعة الملك سعود بالرياض، وقد قال اليوسف
المجلة الثقافية الجزائرية: سأعود إلى الشعر.. في ديوانك (كلمات خارج الزمن) كتبتَ: \”آهٍ مِنْ هَذَا الزَّمَنِ وَمِنْ تَبِعَاتِهِ اليَابِسَةِ، وَأَحْزَانِهِ الَّتِيْ تُشْبِهُ الرِّيْحَ\”، دعني أسألك كشاعر عن الزمن الراهن: إلى أي حد تراهن على (القصيدة) وسط حالة الانحطاط الثقافي التي تعيشها مجتمعاتنا العربية؟
د. علي الدرورة: حسنًا، ألا ترون معي أنّ الإنسان الذي عمره خمسون عامًا صار انهزاميًّا ولا يؤمن بأشياء كثيرة، بسبب الحروب المتتالية التي أوصلت اقتصاد العالم إلى الحضيض حتى صار العالِم في بعض الدول وخاصّة العربية لا يجني سوى ثلاثة دولارات في الشّهر!!!.وما الذي يجعل الإنسان في شمال أفريقيا يهرب عن طريق البحر إلى أوروبا في قارب مكتظٍّ وبدون إثبات أو هوية فيموت بين الأمواج أو يعانق الحرية!.والصور المؤلمة عن زماننا كثيرة، فهذا هو زمننا الرديء الذي طرحت فيه (القصيدة) وكنت أعالج فيه هذه الجراحات التي حولنا. وديواني: (كلمات خارج الزمن) آنف الذكر يعالج كثيرًا من القضايا الاجتماعية، وهذه صفة أيّ شاعر تجاه أمته يصبّ مشاعره صبًّا ويوظّفها في شعره كوثيقة للأجيال القادمة. ولعلّي لا أخفي سرًّا فأقول لكم إنني أمضيت 144يومًا متواصلًا في كتابته دون انقطاع، والاعتكاف هذا لم يحدث معي في أيّ ديوان شعري آخر.
هكذا أمسك القارئ فآخذه إلى جولة خيالية..
المجلة الثقافية الجزائرية: (كالريح كالماء كالورد، يشبه الماء كالبحر كالأمواج،، تهمس الوردة … يهطل المطر) مجموعات شعرية تنطوي على قصائد مفخخة بصور الطبيعة الساحرة وعبقها الآسر.. ما هي محفزّاتك الشعرية؟ وكيف تستطيع نقل القارئ إلى عوالمك ليتنفس هذا الجمال؟!
د. علي الدرورة: كلّما اتسع خيال الشاعر وكانت حصيلته اللغوية ممتازة، استطاع الولوج إلى العوالم السّرية في عمق وفلسفة القصيدة، وهذه الميزة لا تحصل لأيّ شاعر، وقد تسأليني: كيف؟ أو ما هو دليلك؟ فأقول: لقد حدث معي كثيرًا أن يأتيني الشّعراء فيناقشون عناوين دواويني وأنّهم لا يعرفون بعض المفردات أو لم يستعملوها في أحاديثهم البتة أو حتى كتاباتهم، وهذا دليل واضح على نقص الحصيلة اللغوية عند أغلبهم. خذي مثلًا العناوين التالية: (طلسة تمر كالعسعاس)، و(حين رأرأ السّراب)، و(عشق يقتسم الضوء)، و(وردة تغازل ظلي)، و(الغزل بعيون مشفرة)، و(سراب في أثر الوميض) وقس على ذلك كثير من الدواوين الشعرية التي وضعتها، فإما تتم مناقشتي في المفردات أو على التركيب السّوريالي للعنوان، وكذلك مناقشة الدلالات اللغوية ومدى عمقها عبر العتبة النصية للعنوان. لقد وظفت الطبيعة من ورود وأزهار وفراشات والبحر والأشجار وكذلك رموز فلكية كالقمر والهلال والغيوم والمطر والشروق والآصال وكذلك الأساطير بصبغة تاريخية وملامح شرقية، ومن هنا أستطيع أن أمسك القارئ فآخذه إلى جولة خيالية مع التأثير الداخلي، حتى إنّ البعض قال لي لم أستطع التوقف عن القراءة، فأشعارك أجبرتني على قراءة الديوان بكامله، وكذلك الشّواهد التي وصلتني كثيرة. فتعدد الصور في القصيدة مع عمق وصدق الطرح هو الذي أسر القارئ بعد أن أستفزّ مخيّلته.
العناوين هي المدخل العميق الذي يلفت المتلقي
المجلة الثقافية الجزائرية: العناوين الجاذبة تُعد عتبات النص الأدبي التي تستقبل المتلقي وتثير دهشته وإعجابه قبل الولوج للعمق.. كمبدع تهتم بهذا المفتاح كيف تختار عناوينك عادةً؟!
د. علي الدرورة: العناوين كعتبة نصيّة كما درسها جانيت جيرار هي المدخل الأول والعميق الذي يلفت الناقد قبل أيّ متلقٍّ آخر، وبعد ذلك هو الغلاف كعتبة فنية إيحائية. وكتبي، سواء الدواوين الشعرية أو القصص القصيرة، فإنني أضع لها نهجًا لغويًّا بحيث يكون فيه من العمق والبعد الفلسفي، وأحيانًا أرسم به صور مركبة سوريالية تلك العناوين وكأنّها لوحة سوريالية أبدعها سلفادور دالي بحيث إنّ المتلقي، سواء كان ناقدًا أو متذوّقًا أو مبدعًا أو قارئًا عاديًّا يصاب بالدهشة ويتولد لديه عدة أسئلة قبل أن يلمس الكتاب أو يتصفّحه. أما كيف تتم تلك العملية، فتلك سياسة ثقافية أتبعها بعد تفكير عميق في هندسة كيفيتها حيث أخرج بتلك الرؤية للعتبة المميّزة. حيث أضع خمسة عناوين وأتركها لليوم التالي، فأحذف اثنين وأبقي على ثلاثة عناوين حتى اليوم الثاني، وأحذف واحدًا وأبقي اثنين. وبعد يوم أو أكثر أعود من جديد لأحذف واحدًا ويبقى لديَّ اثنان، فأقرّر أيّهما يكون مناسبًا.
لم يوظّف أيّ شاعر ديوانًا كاملًا عن ثيمة البخور
المجلة الثقافية الجزائرية: (البخور الذي..، البخور في قداسته، أغاني البخور، بخور لأساطير البحر، مساء تثأثأ بالبخور) ما الذي دفعك لتوظيف البخور في أحد عشر ديوانًا شعرياً؟
د. علي الدرورة: في الماضي قمت بدراسة البخور دراسة تاريخية معمّقة، وأجبت على أسئلة كثيرة كنت أطرحها على نفسي، ولماذا الإنسان استخدم البخور منذ خمسة آلاف سنة حتى اليوم؟ ولماذا هذا النوع من الخشب رائحته زكية وهو أغلى نوع عند جميع الشعوب وفي جميع الديانات؟ ولماذا هو تقليد مقدّس في المعابد؟ ومازال يستخدم حتى اليوم في الطقوس الدينية والاجتماعية وغيرها من المناسبات.
وأنا على يقين بأنّ البخور مرّ ذكره عابرًا في الشعر العربي ولكن لم يوظّف أيّ شاعر ديوانًا كاملًا عن ثيمة البخور هذا فضلًا عن دواوين عديدة. ومعروف عنّي منذ سنوات طويلة وظّفت الأزهار والورود والفراشات والمطر والنوارس والحياة الطبيعية في دواوين مستقلة لم يقدم عليها أيّ شاعر، وهذا ما جعل دواويني الشعرية تترجم إلى عشر لغات، وديوان: (في بهاء البخور) هو الوحيد الذي ترجم إلى الإنجليزية والمالايلام الهندية والأذرية. وإنّ النقاد وضعوا دراسات نقدية متعدّدة بمختلف المدارس النقدية عن دواوين البخور وغيرها من الدواوين الأخرى.
القطيف فيها إرث تاريخي وحضاري
المجلة الثقافية الجزائرية: القطيف ببيئتها وسرودها الاجتماعية والفكرية والجغرافية المختلفة تشكل مفتاحاً لتجربتك في الكتابة والحياة.. برأيك ما الذي توفره البيئة للكاتب حتى يكون قادراً على تأثيث عالمه التخييلي الجميل وتقديم نص أدبي خالص الإبداع والدهشة؟
د. علي الدرورة: القطيف تقع في منتصف ساحل الخليج وقد أثبتت الحفريات الأركيولوجية بأنّ الإنسان كان موجودًا قبل تسعة آلاف سنة (7,000 ق م) وكان يعيش في رغدٍ من العيش وقد شهدت حضارات عديدة سادت ثم بادت على ثراها، فالقطيف فيها إرث تاريخي وحضاري ممتدة جذوره في عمق التاريخ. لقد أنجزت العديد من الدراسات والبحوث التاريخية وجوانب أخرى من تراثها الشعبي وفنونها وكلّ ماله صلة بالموروث البحري والزراعي والصناعات التقليدية واللهجات وغير ذلك من الدراسات المهمة.
ما يزال للشاعر مكان العزّة والرفعة في المجتمع السعودي
المجلة الثقافية الجزائرية: الشعر السعودي المعاصر اهتم كثيراً بالتراث الشعبي لكن إلى أي حد نجح الشاعر السعودي باستلهام التراث وتأصيل خيوطه في نسيج القصيدة وفقاً للواقع المعاش؟
د. علي الدرورة: لابُدّ لأيِّ شاعر في الدنيا أن يستلهم تراث أسلافه ويوظّفه في شعره، والشعراء السعوديون كغيرهم من الشعوب استلهموا التراث ووظفوه أحسن توظيف، وهذا ليس غريبًا أو أمرًا جديدًا على الشاعر السعودي، حيث سار على نهج أسلافه. فالشعر منذ العصور القديمة حاضر في كلِّ مناسبة ومن قبل الإسلام حتى اليوم مازال الشعر حديث الجميع، حتى لمن لا يقرض الشعر فهو يحفظه ويتداوله.
والشعراء السعوديون أبدعوا في جميع الأنساق الشعرية، ففي المسامرات والندوات والملتقيات والاحتفالات وحتى المسابقات داخل وخارج السعودية نجد الشعر في المقدمة وما يزال للشاعر مكان العزّة والرفعة في المجتمع. وتُعدّ بلاد الحرمين الشريفين مهد الشعر والشعراء، فأيّ شاعر عربي لا يمكنه الوصول إلى مستوى كلمة شاعر دون أن يدرس ويحفظ شيئًا من قصائد فحول الشعراء وخاصة المعلّقات، وكذلك الاطلاع على الشعر في العصرين الأموي والعباسي حتى العصر الحديث، حيث تعدّدت المدارس والمناهج فكانت القصيدة وما زالت متأصّلة في فكر الإنسان في الجزيرة العربية.
الكتاب في المجتمع السعودي له سوقه وله روّاده
المجلة الثقافية الجزائرية: مجتمعاتنا تتعامل مع الإبداع بروح تجارية بحتة بحيث حولته إلى سلعة استهلاكية عليها أن تجتذب المشتري بعناوين صارخة لا علاقة لها بحياة الناس الحقيقية.. ضمن هذا الواقع كيف تصف المشهد الثقافي في السعودية بوصفك أحد أعلامه المميزين؟
د. علي الدرورة: شخصيًّا أؤمن بأنّ الكتاب الذي لا يخدم المجتمع هو مثل فقاقيع زبد البحر، والكتاب في السعودية يحظى باهتمام كبير على اختلاف مناطقنا واختلاف لهجاتنا وبيئاتنا وتفكيرنا، وبما أنني أعيش في بيئة حاضنة للعلم والعلماء ولديها اهتمام كبير بالثقافة ولا يمكن أن يقدّم أحدٌ كتابًا تجاريًّا بعناوين برّاقة، ويعرف المقرّبون مني بأنني دارس للعناوين، وقد أنتجت بعض المقالات وهي منشورة، ولا يمكن أن أدخل مكتبة أو معرض للكتاب ولا أخرج دون مقال خاص بدراسة عتبة نصيّة للعناوين، وهي عتبة مهمة ومعروفة لدى النقاد، وكما يقال: (الكتاب يُقرأ أو يعرف من عنوانه)، على أنه يوجد كتَّابٌ يضعون عناوين برّاقة من أجل التسويق التجاري، والأديب الفطن يدرك هذه الخدعة.
فكثير من الروايات تتحدّث عن الشرق بينما عنوانها في الغرب، وللأسف من يقوم بذلك هم أصحاب الكتاب الأول الذين لم يمارسوا فنّ الكتابة وليس لديهم قاعدة في النشر عبر وسائط الإعلام ولا أدنى خبرة لديهم. وإذا افتقروا لهذه الخبرة فلا شك أنّ الكتاب الإبداعي المطروح سوف يشوبه أو يعتريه الهزال، وقد اطّلعنا على مثل هذه الكتب ووجدنا أنّها غير مراجعة لغويًّا، والجمل أو الفقرات غير مترابطة.
وعمومًا الكتاب في المجتمع السعودي له سوقه وله روّاده وعليه إقبال شديد، سواء أكانت كتب الجامعات أو إصدارات الأندية الثقافية، أو المنتديات الأهلية، أو دور النشر، أو كتب الأدباء وغيرها والمجتمع السعودي يحرص على الكتاب المحلّي والدولي على حدٍّ سواء، والمفهوم العام للمجتمع اختلف كليًّا عمّا كان عليه في الماضي.
مجتمعاتنا لن تنهض إلّا بعودتها لنهج القرآن الكريم
المجلة الثقافية الجزائرية: نشاطك الثقافي الملحوظ يدفعني لهذا السؤال: أي حد تراهن كمثقف موسوعي على المعرفة لاستنهاض المجتمعات العربية المكبّلة أساساً بإشكاليات فكرية وسياسية واجتماعية حادة؟
د. علي الدرورة: المجتمعات بإمكانها النجاة من هذا الشرك المنصوب لها عبر العصور، أما لماذا هي دخلت في تلك المتاهة ولم تستطع الخروج منها، وعندها القرآن الكريم وهو دستور حياة، والسبب ابتعادها عنه وعدم العمل به، وهذا الابتعاد هو الذي جعل تكالب الأمم عليها، ولن تنهض وتتحرّر من ذلك التكبيل إلّا بعودتها للنهج السّليم، لقد كنّا خير أمة أخرجت للناس فانظري إلى وضعنا في هذا العصر، هل ينطبق علينا هذا الكلام.
التّطبيل شوّه التراث..
المجلة الثقافية الجزائرية: ما نلاحظه أن كثيراً من المثقفين يرفضون التراث، ويرونه أحد أسباب تخلفنا وانتشار الفكر الإرهابي.. كيف نعطي التراث حقه؟ برأيك هل نحتاج لإعادة قراءة الماضي قراءة جديدة؟
د. علي الدرورة: المثقف الذي يرفض التراث فهذا شأنه، وهذا واضح جدًّا بأنه قرأ التراث بعين واحدة ولم تتضح له الصورة جيّدًا ليعرف المسائل السّلبية فيتجنّبها،والمسائل الإيجابية فيتّبعها، فهو في نظره أنّ التراث كلّه سلبي!! وحتمًا هذه وجهة نظر قاصرة لا ترقى حضاريًّا للمستوى العلمي. وتلك النّظرة السّلبية نوع من التشدّد، كما هو الحال في نظر من يرى أنّ الإرهاب هو نهج صحيح بينما هو في ضلال مبين. والتراث في العصور المتأخرة عبث فيه من عبث، وزيّف من زيّف، وحرّف فيه من حرّف، فأصبحت صور كثيرة من جوانبه مظلمة أو معتمة تحتاج لمن يجلو عنها هذا الظلام. وللأسف الشديد تفشّى الفهم المخطئ للتراث، وبما أنّ التراث جزء من التاريخ وبصفتي مؤرّخًا طالبت كثيرًا من زملائي من المؤرخين في الخليج بإعادة تنقيح التراث وإعادة كتابة التاريخ بشكل جلي وتقديمه للأجيال القادمة بصورة أفضل. إنّ المحاباة والتّبجيل والتّطبيل لفئة دون أخرى يجعل صورة التراث مصابة بالتشويه.
الانترنيت يعجّ بالإبداع الضعيف
المجلة الثقافية الجزائرية: كما تعلم العالم الافتراضي خلق طبقة من (الشعراء الافتراضيين) الذين ينتجون نصوصاً ضعيفة ليست من الإبداع في شيء.. برأيك هل عجز الشعراء الحقيقيون عن الانتماء للزمن الراهن وترك الساحة فارغة لأشباه المبدعين؟
د. علي الدرورة: الإنترنت والفيس بوك يعجّ بالنتاج الضعيف الذي لا يرقى لمستوى النشر، وهو ما شجّع الكثير ليكون متطفّلًا على الشعر، ولكن دعينا نعتبر ذلك مجرّد تجارب إبداعية غير ناضجة، فكلّنا أحيانًا نأكل فاكهة فجّة ولا نرمي بها جانبًا. وهناك مسؤولية تقع على منظم الحفل أو الأمسية الشعرية إذا قدّمها عبر الزووم وقد اختار شاعرًا مبتدئًا غير متمكّن من قواعد النحو والصّرف والعروض، ولم يَسْعَ إلى اكتساب هذه الأدوات من المطالعة الذاتية أو بالالتحاق بالدورات التدريبية المتخصّصة في هذا المجال، وما أكثرها!. ومشكلة هؤلاء أنّهم يبيعون فاكهتهم وهي فجّة، أو أرغفتهم قبل نضجها، والشعراء ليس لهم ذنب في ذلك حين يرون قصيدة فيها من الضّعف والركاكة منشورة أو قد فاز ناظمها.
إنّ انزواء الشعراء الحقيقيين في فترة الجائحة لأنّهم لم يعتادوا هذا النوع من المشاركات، ودعوني أطبّق هذا على نفسي، حيث إنني لم أشارك عبر الزووم سوى أربع مرّات خلال عامي(2020-2021) وتلك المشاركات بطلب من الأصدقاء، أما ما اعتذرت عنه فهو كثير، وقد فاق العشرين أمسية وندوة ومحاضرة.
القاصُّ هو البصير بخبايا المجتمع
المجلة الثقافية الجزائرية: لنقف قليلاً عند تجربتك القصصية في ضوء ما طرحته من قضايا فكرية واجتماعية ضمن مجموعة (تفرّقت السبل) وغيرها: برأيك إلى أي حد تستطيع القصة القصيرة جداً الاستجابة للظروف الاجتماعية والقضايا السياسية والثقافية المعقدة التي تربك الإنسان المعاصر وتقلقه؟
د. علي الدرورة: القاصُّ هو البصير بخبايا المجتمع، وبالتالي خبرته في تلك القضايا بصفته واحدًا من تلك التركيبة المجتمعية، فهو أعرف فيطرح تلك القضايا في قالب أدبي وهو على علم في كيفية معالجة تلك القضايا.
ولا يوجد أفضل من إنسان ابن البيئة في المعالجة، والطرح هنا هو تكريس الخبرة كما يفعل الطبيب في التعامل مع مرضاه.
لا شك بأننا نعيش في عالم معقّد وكما نقول بالدارجة (مكركب)، أو (مخربق) لا نعرف فيه الغثّ من السّمين وقضايا مختلفة في شؤون الحياة تحيط بنا فلا نعرف لها حلًّا؛ لأننا لا نعرف لها بداية ولا نهاية ولهذا صار العالم معقّدًا من حولنا، ولهذا على الأديب أن ينبري ويساهم في فك تلك الألغاز المتكالبة على مجتمعه قدر المستطاع ليسهم بجزء كبير في تخفيف العبء على مجتمعه.
المجلة الثقافية الجزائرية: وكيف ترى عن مستقبل القصة القصيرة جداً في ظل الحملات التي تُشن عليها.. خصوصاً وأن هناك من يستسهل الكتابة في هذا النوع الأدبي مستغلاً منصات التواصل الاجتماعي؟
د. علي الدرورة: لي تجربة عريقة في القصة القصيرة جدًّا، وهناك دراستان نقديتان تمت طباعتهما، وهناك أيضًا ثلاث دراسات حسب علمي مازالت قيد البحث حول تجربتي في:(ق ق ج)، وأعتقد بأنّها تجربة لقيت استحسانًا من النّقاد، ومنذ الثمانينيات حتى الآن قدّمت للمكتبة العربية 33 إصدارًا في هذا الفنّ الأدبي.
بالنسبة لمن يستسهل فنّ القصة فيدلي بدلوه وليس عنده خبرة أو قاعدة انطلق منها فهذا يعرّضه لعامل النقد من قبل الناقد المختصّ، ونحن نرى في شبكة الإنترنت التي تعجّ بمثل هذا الطرح الركيك، فهؤلاء من يبيعون أرغفتهم قبل نضجها وهي كارثة من غير شك.
الأدب المهمل له جمالياته البيانية
المجلة الثقافية الجزائرية: تفردت بالكتابة عن الأدب المهمل نثراً وشعراً.. لكن ما الذي أغراك للدخول إلى منطقة مهجورة تماماً في الأدب العربي؟! وماذا عن صعوبات الكتابة بالحروف المهملة؟
د. علي الدرورة: سؤالكم هذا أعجبني نوعًا ما واستوقفني، والحقيقة كان تحدّيًا بيني وبين نفسي فقلت إنّ خوض هذه التجربة من الإبداع في هذا الجانب يحتاج إلى تركيز وحصيلة لغوية تفوق حجم القواميس عدّة مرات!، وهنا غامرت وتحدّيت نفسي منذ البدء قبل سنوات طويلة جدًّا. وبدأت في نشر المقاطع الأدبية سنة 1994م في الصحافة السعودية وواصلت البحث حتى اليوم ومازلت متتبعًا هذا الفنّ في بطون المخطوطات. وقد ألقيت المحاضرات وتحدّثت مع الشّعراء في كلّ ملتقى أحضره ومنذ أكثر من ثلاثة عقود مازلت أحرص أشدّ الحرص في لمّ شتات القصائد بالحروف المهملة (بدون نقط) منذ القرن الهجري الأول (القرن السادس الميلادي) وأيضًا جمع المخطوطات والكتب التي وضعت في ذات الجانب من الهند وكشمير وباكستان والجزيرة العربية وسورية ومصر والمغرب، وكونت مكتبة هي الوحيدة في العالم على صغر حجمها. وقد بحثت في جامعات الخليج فلم أجد كتابًا واحدًا لديهم وهذا دليل على عدم الاهتمام بهذا الجانب الفني الثقافي الذي لاحظت أنّ أمناء المكتبات يندهشون لما أطرح عليهم ويخبروني أنه لا يوجد لديهم في مثل هذه الكتب بل إنّهم لم يقرؤوا كتابًا واحدًا في حياتهم بالحروف المهملة. بعد كلّ هذه السنوات بدأت برفد المكتبة العربية بكتب الأدب المهمل، ومنها:
1. الدّرر اللوامع.
2. معجم شعراء المهمل.
3. الورد العاطر.
4. المسائل (كتاب تدريب).
5. سمط الدر (تحقيق).
6. الأدب السعودي المهمل.
وهناك كتب قيد الطباعة، وقد شعرت بالسّعادة الغامرة بهذا الإنتاج الثقافي الذي لم يسبقني إليه أيّ أديب في الوطن العربي، لا في القديم ولا في الحديث. ولا شك بأنّ الكتابة بدون نقط فيها من الصّعوبة بمكان، ولهذا وضعت كتاب المسائل ليتدرّب عليه طلاب الثانوية والجامعة والشعراء على حدٍّ سواء وهو أول كتاب من هذا النوع للتدريب على الكتابة بالحروف المهملة.
إنّ جماليات الكتابة في هذا الفنّ لا تقلّ روعة عن جماليات المكان التي درسها ميشيل فوكو فلكلّ شيءٍ له جمالياته، والإبداع بدون نقط له جمالياته البيانية. ويكمن السِّر فيه أنّ الغالبية العظمى من الكتّاب والشّعراء لا يقدمون على الخوض فيه لصعوبته.
تجربتي في إعداد المعاجم كانت ناجحة بكلّ المقاييس العلمية
المجلة الثقافية الجزائرية: لنسلط الضوء قليلاً على تجربتك في المعاجم باعتبارها إضافة مهمة للفكر العربي وقيمه.. ما هي مرجعياتك لجمع المعلومات التوثيقية بتلك الدقة خصوصاً وأنك تناولت مواضيع مختلفة (أمثال، لهجات، مهن، مصطلحات..)؟
د. علي الدرورة: تجربتي في إعداد المعاجم كانت ناجحة بكلّ المقاييس العلمية، لقد بدأت منذ عام 1988م في إعداد القواميس وواصلت الليل بالنهار ولساعات طويلة، وأول معجم كان عنوانه:(الأمثال الزراعية في الخليج) وهو من أربعة أجزاء، وتوالت القواميس المتنوعة في مختلف الأبواب كالزراعة والفلك واللهجات الدارجة والملاحة البحرية وغيرها.
كما هو معروف بأنّ إعداد أيّ كتاب يواجه المؤلف صعوبات حتى ينجز كتابه، وهذا يعني أنني واجهت في إعداد المعجم الأول صعوبات جمة، وبالإرادة تغلبت عليها، ولكنّها كانت قاعدة صلبة انطلقت منها لبقيّة المعاجم.
وفي أغلب المعاجم التي وضعتها تنقسم المرجعية إلى قسمين، لابُدّ للباحث من الولوج فيهما بقوة وكثافة حتى يحقق المطلب العلمي، فالمرجع الأول هو الرواة حيث التقيت طائفة كبيرة من الرواة مع وضع شروط وأسس البحث الميداني في اختيار الرواة، والمرجع الثاني هو العمل المكتبي حيث المراجع في ذات التخصص المطلوب البحث فيه، وكلاهما يكمّلان بعضهما بعضًا.
ومن خلال علاقاتي وأسفاري العديدة استطعت تذليل العقبات عبر المؤسسات العلمية والثقافية والجامعات وبالجدّ والاجتهاد والمتابعة الدقيقة والحرص على نجاح أيّ عمل علمي استطعت إنجاز 17 معجمًا منوّعًا خلال 35 سنة من البحث المتواصل.
المجلة الثقافية الجزائرية: وبرأيك لماذا عجزت المؤسسات اللغوية عن التطور في هذا المجال رغم أن اللغة العربية هي أم اللغات جميعاً، بينما نجحت اللغات العالمية بامتلاك عشرات الأنواع من المعاجم المتخصصة في الشعر والموسيقى والاقتصاد.. إلخ؟!
د. علي الدرورة: يؤسفني القول إننا نحن العرب ظلمنا لغتنا العربية كثيرًا، وكثيرًا جدًّا ومن عدة نواحٍ. صحيح أنه في الغرب اهتمت كلّ أمة بلغتها فوضعت القواميس العديدة في شتّى العلوم والفنون، بينما نحن العرب ليس لدينا مجمع علمي لغوي في كلّ بلد، وتدريس اللغة العربية صار متراجعًا بل متدنّيًا وأنّ خريجي الكليات لا يفرقون بين:(أ و ى)، (ذ و د)، (ض و ظ) ولا حتى يعرفون كتابة: (إن شاء الله) بشكل صحيح فهم يكتبونها بستّ طرق وكلّها خاطئة، وقس على ذلك النحو والصّرف، والمحزن في الأمر أن يصدر ذلك من شعراء وكتَّاب لهم ثقلهم في السّاحة، ويوميًّا نكتشف ذلك!!
المجلة الثقافية الجزائرية: ما نلاحظه أن تأثير المرحلة الراهنة انسحب على كثير من النتاجات الإبداعية حيث أن معظمها يعكس ما تعيشه منطقتنا من تطرف وعنف وإرهاب، فهل تحول الإبداع إلى مساحة للتنفيس عن الذات فقط؟ وهل مازال التعويل على الإبداع ممكناً بوصفه وسيلة للتواصل مع الآخر؟
د. علي الدرورة: الإبداع السردي الذي يعكس حالة ما هو من الضرورة بمكان، وما مرّت به كثير من الدول بسبب التطرف الذي لا بُدّ له وأن يعكس ذلك على مسار الأدب، فإنّ الشاعر والأديب هو مؤرخ لمرحلته، وهو لا يبدع في الخيال فحسب، وأنّ ذلك لو لم ينعكس على نتاجه الإبداعي في تلك المرحلة فهو لم يكن حريصًا أو مكترثًا بشأن أمته، أو لا يعكس رأي مجتمعه الذي يقف ضدّ هذا الوضع، وبما أنه وقف ضدّ التطرف وتبعاته فهو يعبّر عن المجتمع تمامًا. وعند الشعراء عمومًا وحتى شعراء المناسبات، فهم مؤرخو المرحلة التي عايشوها واكتووا بنارها وأثّرت عليهم،ولذلك نجد نتاجهم الفكري يدرّس الآن أو يدرّس بعد قرون،أما لماذا؟ فهو دلالة على صدقه، إلى جانب أنّ الشاعر أو الأديب هو شاهد على عصره، وبالتالي لابُدّ له وأن يعكس الأحداث التي مرّت به. إذًا فالشاعر والروائي والقاصّ والناقد والأديب ومن يعمل في حقل الإعلام، وكذلك التشكيليون وكلّ ذوي الفكر النيّر والمبدع وغيرهم، كلّهم عليهم أن يتركوا بصمتهم الإبداعية كي يكون التواصل مع جميع الأطياف.
المجلة الثقافية الجزائرية: كتابك (تجاوز السخافات) يحرّض على الجمال الإنساني.. في ظني أنه احتجاج ضمني على الرداءة القائمة تحت ظلال العولمة.. ما رأيك؟
د. علي الدرورة: لا شك في ذلك، وهذا نتيجة تجارب يمرّ بها أغلب الناس، من مشاهدتهم للصور السّلبية في المجتمع وهي في كلّ مكان، حيث تجدها في الشّارع، وفي الاحتفالات وفي الإنترنت وفي الملاعب الرياضية، وفي الأسواق والشواطئ. إنّ انعدام الأخلاق هو الذي يدعونا أن نلجأ إلى تجاوز تلك الصور واحتقار فاعليها.
دور المبدعين خلال الجائحة بثّ الطمأنينة في المجتمع
المجلة الثقافية الجزائرية: قدمت العديد من الكتب حول (كورونا).. ماذا عن فعل الكتابة ضمن عزلة الوباء؟
د.علي الدرورة: كتابي (الحب في زمن الكورونا) طبع في القاهرة 2020م، وهو يسلّط الضوء على الجائحة وعن العلاقات الاجتماعية وتبدّد الحب بين الناس بسبب الخوف من الجائحة، وهذا الجانب ولّد شعلة الكتابة لديَّ في دراسة المجتمع من هذا الجانب. كما أنني خلال السنة ذاتها أصدرت كتبًا أخرى عن الجائحة، وهي:
1. هل غيّرتك جائحة كورونا؟
2. الصورة في زمن الكورونا؟.
3. كورونا والمجتمع.
4. قصائد كورونية.
تلك خمسة كتب ألّفتها إلى جانب مقالات عديدة لم أجمعها في كتاب بَعدُ. وأعتقد أن فترة الحلس (الحجر الصحي) قد حرّك هواجس الكتّاب بصفة عامة حول الجائحة وخاصة الشّعراء وروّاد القصة القصيرة كما أخبرني بعض الأدباء. ولاشك بأنّ الانزواء في فترات العزل كانت فرصة مواتية لغير المتفرغين للعملية الإبداعية حيث إنّ باب الإبداع كان مفتوحًا على مصراعيه.
المجلة الثقافية الجزائرية: أشعر أن كتبك العديدة حول (كورونا) هدفها إظهار الجانب الإيجابي للجائحة التي فرضت على العالم عزلة قاسية وحجر صحي صارم.. وكأنك تشجع على قيمة العمل ..على الحركة.. على الفعل.. رافضاً مبررات الجمود.. هل توافقني الرأي؟
د. علي الدرورة: كلّ كاتب عليه أن ينشر البهجة، وقد كنّا نقول خلال (الحلس) لا تنشروا الأخبار السّلبية، بل انشروا الأخبار السّارة قدر المستطاع، حيث إنّ البعض كان ينشر الأخبار السّلبية في المجتمع، وهذا يؤثر سلبًا على نفسية الموظفين. وقد مررنا بأزمة (الخبز) وأزمة (البيض) خلال (الحلس أو الحجر)، وقد كنّا نرفض أن تمكث الناس في منازلها، فقد كان فيروس كورونا في كلّ مكان في البيت وفي الطريق… وفي المصنع وفي السّوق وفي المستشفى، ولكن علينا أخذ الحيطة والحذر في أصول السلامة والاحترازات الصّحية والحرص عليها، وبالتالي غياب الناس عن الأعمال يعطّل مصالح الجميع. دور الكتّاب والشّعراء – هنا- خلال الجائحة هو بثّ الطمأنينة التي غابت عن المجتمع وبشدّة، فقد باتت النفسيّات في وضع سيئ جدًّا، والأخبار تأتي من كلّ دول العالم وهي تحمل أخبارًا مؤلمة ومعتمة ضبابية وسوداوية وهي صور الموت الأسود الذي حصد الآلاف من البشر.
رحلاتي انعكست على كتاباتي
المجلة الثقافية الجزائرية: أدب الرحلات قدم للبشرية نصوصاً أدبية ممتعة على مرّ العصور، حدثني عن تجربتك مع الرحلات.. ماذا أضافت لك إبداعياً وإنسانياً؟
د. علي الدرورة: رحلاتي كثيرة جدًّا، وأذكر في عام واحد قمت بـ 33 رحلة داخل الخليج وشمال أفريقيا، وكلّ تلك الرحلات مدوّن حيثياتها بدقة متناهية حتى مشاهد الطرق والغابات والمعالم والناس والقرى والأرياف وكلّ ما يشاهده الرحالة فيسفره، وهذه أكسبتني متعة جميلة انعكست على إبداعي بشكل جلي. ففي غابات إفران (يفران) في الأطلس تشعر أنك في عمق الجمال حين تجلس تحت الأشجار التاريخية، وأيضًا عندما تتبعت نهر أم الربيع حتى وصلت إلى منابعه الخلابة. وكذلك وأنا أتجوّل في غوفيو تكوت وأولاد ميمون وتلك الأماكن التاريخية وفي بساتين النخيل في ولاية بسكرة، وعلى شواطئ البحر في الحمامات وسيدي بوسعيد بتونس، وكذلك على شط النيل في مصر، تلك الأماكن فيها أجواء ساحرة تأخذك إلى عوالم الإبداع.
تجربتي مع النّقاد كانت رائعة جدًّا
المجلة الثقافية الجزائرية: في ظل طغيان الانطباعي والسطحي على المشهد النقدي .. كيف وجدت المقاربات النقدية لمسيرتك الإبداعية؟ هل تشعر أن القراءات النقدية أنصفت تجربة علي الدرورة الثرية؟
د. علي الدرورة: تجربتي مع النّقاد كانت رائعة جدًّا وأستطيع القول إنّهم أنصفوني، بالرغم أنّ نصفهم لم ألتقِ بهم وجهًا لوجه حتى الآن، وأذكر من هؤلاء النّقاد: د.محمد زيدان، أحمد المقدّم، مصطفى الكحلاوي، مجدي حمدي، سلمان العيد، كمال عبد الرحمن النعيمي، هاجر بوعبيد، وغيرهم الكثير. وكلّ هذه الدراسات تمت طباعتها في كتب، أضف إلى ذلك أنّ هؤلاء النّقاد لهم الخبرة العريقة في عالم النقد؛ أما الكتب الأخرى فقد ألّفها أقرباء وأصدقاء وزملاء، ومنهم: صالح غريب وسلمان العيد، أما المقالات فهي كثيرة جدًّا ولا يمكن حصرها، ومنهم: عبد الله الشباط، ويوسف العتيق، وإبراهيم سعفان، وسلفيا إسماعيل، وصالح غريب، ومحمد ولد الطالب، ومحمود عبده عبده، ود. عصام الدايح، واشتياق آل سيف، وقائمة طويلة من الإعلاميين والكتّاب والشعراء. ولا أنسى طلاب الجامعات الذين قاموا بإعداد دراسات التخرج وأنا لا أعرفهم ولم أرهم قَطّ، وخاصة في الجامعات الجزائرية، ومنهم في جامعة محمد خيضر في بسكرة، وهذا يسعدني ويأخذني إلى عوالم الاطمئنان بأنني أنجزت مواد خصبة استطاعت أن تحوز رضا الآخرين من نقّاد وإعلاميين وكتّاب وطلاب جامعيين، ونالت إعجابهم وقدّموا دراسات نقدية عنها بالرغم الفارق الجغرافي بيننا. ولا أنسى الكتب الأخرى التي أرّخت لحياتي وعن علاقاتي وأسفاري، ومنهم: صالح غريب، وجاسم الجاسم، وسلمان العيد، ومحمد الدرورة، وغيرهم الكثير. إلى جانب أنّ هناك دراسات نقدية عن إبداعاتي لم تكن مرصودة لديّ، والسبب أنني لا أعرف عنها شيئًا وإنّما سمعت به، وهذه دلالة أخرى على وصول المادة الثقافية لكلّ هؤلاء الناس.
اكتسبت خبرات جديدة وممتازة
المجلة الثقافية الجزائرية: لنبدأ من جديد.. كيف يمكن للشاعر الدكتور علي الدرورة أن يصنع حضوره المعرفي، ضمن جغرافية وخصوصية مكانه، وبالتالي صياغة مفهوم أكثر معرفية للمثقف الخليجي بكونه مثقفاً تأخر حضوره عربياً؟
د. علي الدرورة: عملت لمدة 300 شهر متواصلة وكنت أقضي إجازاتي في دول الخليج في البحث عن الموروث الشعبي طوال تلك السنين متنقلًا بين الجزر والمرافئ والشّواطئ والمزارع والأرياف والصحاري. وبعد تقاعدي خلال السنوات الماضية صرت أتنقل بين دول شمال أفريقيا بكثافة فاكتسبت خبرات جديدة وممتازة، وخلال حضوري خارج الخليج أتاح لي آفاقًا معرفية كبيرة، كما أتاح لي فتح آفاق أوسع وأرحب.
أدرك بأنّ كثيرًا من أدباء الخليج متقوقعون في ديارهم ينتظرون الطائرة أن تأتي أمام منزلهم وهذه صورة خيالية لن تحدث أبدًا على أرض الواقع، ولهذا أخذت بزمام المبادرة وتجولت في كلّ مكان في دول شمال أفريقيا، من مصر إلى موريتانيا.
وهذا ما مكّنني من المشاركة في العشرات من الملتقيات والمهرجانات وإقامة الندوات والأمسيات والمحاضرات، وبمعنى جعل حضوري فاعلًا وقويًّا حيث تركت بصمة ثقافية مميّزة.