أنا شاعر مهموم بالإنسان.. والقصيدة هي التي تكتبني
محمد الشحات شاعر مصري جميل، انقطع عن الإبداع الشعري خمسة عشر عاماً كردة فعل على تهميش النقاد لتجربته لكن ما حدث في ميدان التحرير عام 2011 أعاده إلى الساحة الأدبية ليستكمل عطائه الإبداعي بتدفق وحماس لافتين.. في رصيده إحدى وعشرين ديواناً ومنها: (مكاشفة) (سيعود من بلد بعيد) (رجفة المقامات) (رجل مسكون بالزرقة) (البكاء بين يدي حفيدة) وغيرها.. ضيفنا يجيد إيصال رسالته ببساطة وعمق ودون تكلّف أو عناء، ولهذا يشعر القارئ بألفة مع أشعاره. فهو يكتب ما يشعر دون تردد، مترجماً خيباته.. آلامه..أحزانه.. آماله بإحساس مرهف وأسلوب رشيق تتقاطع فيه القصيدة مع دلالات أدبية وسياسية واجتماعية مفعمة بالجمال اللغوي والإبداعي والإنساني. في هذا الحوار، فتح لنا محمد الشحات قلبه متحدثاً عن الشعر والقصيدة كما أتحفتنا بنماذج من قصائده الجميلة:
حاورته: باسمة حامد
غبت عن الكتابة متعمداً..
المجلة الثقافية الجزائرية: الكلمات – وفق كاتب يوناني- \”لا يمكنها أبداً أن تخفف عمّا في قلب الإنسان.. الصمت وحده قادر على فعل ذلك\”، ما رأيك؟ هل غيّر الصمت نظرتك للقصيدة بعد غيابك عن الشعر ستة عشر عاماً؟!
محمد الشحات: غبت عن الكتابة متعمداً قاصداً الابتعاد عن الشعر وعالمي الذي أجهدني وأتعبي بعد أن صدرت من عام 1974 وحتى عام 1996 ستة دواوين ولم تحظى تجربتي بالاهتمام النقدي الذي يوازي من أنفقته من مشاعر وقدمته من قصائد، وكانت هناك قصدية من تجاهل النقد لي فآثرت السلامة والابتعاد عن الشعر وعن الوسط الثقافي تماماً، اللهم رئاستي لتحرير جريدة معرض الكتاب، والتي استمرت حتى عام 2011 وهو العام الذي شهد عودتي مرة أخرى للكتابة بقصيدتي (المترو لا يقف في ميدان التحرير) والتي صدرت بعد ذلك في ديوان عن هيئة الكتاب عام 2012، وأنا لم أجد تفسيراً منطقياً في التوقف، أيضاً للعودة ومع العودة لم أتوقف حتى الآن، أما بالنسبة للصمت فأنا عاشق الصمت ومفردات الصمت منتشرة بكثرة في قصائدي، فأنا مؤمن بأنه من الممكن أن ما يقوله المرء بالصمت يغنيه عن مئات الكلمات، وأعتقد أن طول صمتي وتوقفي الطويل كان أحد الأسباب التي جعلتني أجري الكثير من الحوارات مع الصمت والغوص في أعماقه، لأن في الصمت الكثير من الدلالات التي لابدّ لنا من معرفتها .
المجلة الثقافية الجزائرية: ثمة مسافة زمنية كبيرة بين ديواني \”كثيرة هزائمي\” و\”المترو لا يقف في ميدان التحرير\”.. ما اللحظة الفارقة التي هيأت عودتك للشعر؟
محمد الشحات: ثورة يناير 2011 والشعور بأن ما حدث على أرض الواقع وخروج المصريين خاصة الشباب ومطالبتهم (عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية) التقت مع نفس الأفكار والقضايا والمبدأ التي كثيراً ما ناديت بها على امتداد سنوات رحلتي الأولى مع الشعر ومنذ ديواني الأول(الدوران حول الرأس الفارغ) الصادر عام 1974 وأول قصيدة به أقول فيها:
إنْ لمْ تقدِرْ
أنْ ترفضَ شيئًا تكرهُهُ ..
فانزعْ رأسَكَ
وابحثْ عنْ رأسٍ تَحمِلُه
كىي تحيَا حرًا أبديًا
فأنَا أبحثُ كلَّ مساءٍ
عنْ وجهِي .. أوْ عنْ كفِّي
أخشى أنْ يأتيني يومٌ
ألبسُ وجهًا لا أعرفُه
أو أملكُ كفًا
تصنعُ أشياءً لا أرغبُهَا
أوْ تمشِي قدمِي إرغَامًا
منْ أشباحِ الخوفِ المزروعةِ
في عالمِنَا
ما أسوأَ أنْ نحيَا قتلى
لا عينَ تنظرُ مَا يجرِيْ
أو كفًا تصنعُ أحداثًا
هذا هو الشعر..
المجلة الثقافية الجزائرية: لعل ما يسترعي الانتباه في (ملامح ظلّي) (رجل مسكون بالزرقة) (مكاشفة) الحالات الوجدانية لدى الشاعر.. كيف تكتب بهذه الرهافة في واقع شديد الفوضى والتشويش؟!
محمد الشحات: هذا هو الشعر، فالشاعر رغم كل الأجواء التي يعيش فيها من حصار وتضييق وخنق وقيود واختناق يسعى جاهداً إلى زرع الأمل وبث روح الحياة في النفوس، وهو الجوهر الأساسي للشعر والفنون بصفة عامة، وأنا أعتقد أن الشعر والفنان إذا لم يكن بجانبه الصدق ونبل المشاعر خرج بشكل كبير عن قيمته، أنا أكتب من أبعد نقطة حسية بداخلي، وأكتب وأنا ملتهب المشاعر وصادق إلى أبعد درجات الصدق حتى أستطيع أن أصل برسالتي، وإلّا أصبح مبدعاً مزيفاً وغير أمين وغير صادق، ومعاذ الله أن أكون واحداً من هؤلاء، القصيدة هي التي تكتبني، الشعر يصل عندي إلى فوهته ويخرج مندفعاً متدفقاً دون أي حواجز ولا حدود ودون أي موانع .
أنا أعالج نفسي بالشعر
المجلة الثقافية الجزائرية: في (رجفة المقامات) (سيعود من بلد بعيد) (البكاء بين يدي الحفيدة) يحاور الشاعر ذاته بما يكابده من شجون وذكريات وخيبات وقلق، هل يمكن للشعر ترميم ما انكسر؟!
محمد الشحات: الشعر علاج، أنا أعالج نفسي بالشعر، وهناك العديد من الكتب التي تتحدث عن العلاج بالشعر، أنا عندما تشتد أزمتي ألجأ للشعر بل الشعر هو الذي يلجأ لي كي أنفس عما يدور بداخلي، والدليل على ذلك ديواني (سيعود من بلد بعيد) الذي كتبته خصيصاً بسبب ابني الغائب والذي يعيش بعيداً عني في أمريكا، وجدتني أكتب قصيدة تلو قصيدة، ومع تولي القصائد للحديث إلى الابن الغائب والمغترب، كان هذا الديوان الذي تناولت فيه غربة الابن المسافر وغربة الأب في وطنه، فالتقت الغربتين، وبسبب الصدق الفني الشديد لقصائد الديوان في أقل من شهرين كتب عنه أكثر من 30 دراسة نقدية، تم نشرهم في (مرايا الشعر مرايا النقد) الذي صدر عام 2020 عن دار (الأدهم) بمقدمة للدكتور رمضان بسطاويسي.
لا يمكن للشاعر الانفصال عن الواقع الذي يعيشه
المجلة الثقافية الجزائرية: منجزك الشعري يعكس حمولة معرفيّة وسياسية وتاريخية وثقافية.. ماذا عن مرجعياتك؟ وبمن تأثرت بالشعراء العالميين الذين يمزجون التجربة الخاصة بالقضايا العامة؟
محمد الشحات: لا يمكن لأي شاعر صادق في تجربته الانفصال عن الواقع الذي يعيشه بكل مدخلاته، أنا شاعر مهموم بالإنسان، الإنسان بكل ما يحيط به من قضايا اجتماعية سياسية، نفسية ، حياتية ، تطرقت في قصائدي لكل تلك القضايا منذ ديواني الأول (الدوران حول الرأس الفارغ) والذي صدر عام 2021 عن هيئة الكتاب، وعلى امتداد العشرين ديواناً التي تضمنها الأعمال الكاملة وصدرت في أربع أجزاء وفي 2324 صفحة من القطع المتوسط، وأيضاً في ديواني تمني لو يصحبه ديوان شعر هيئة قصور الثقافة (لم يقدر أن يتغير) ديوان شعر المجلس الأعلى للثقافة وهما تحت الطبع، وديوان آخر أجهز له سوق يصدر بإذن الله على معرض القاهرة للكتاب القادم، كل هذه الدواوين تعالج الهم الإنساني بكل قضاياه حيث يتمدد بين قصائدي، بين أبياتي، وبل في كل كلمة كتبتها عبر ما يزيد عن 1500 قصيدة، فتجربتي الشعرية تقترب من النصف قرن، وإن عشت خلال فترة شديد التقلب والتوتر، وشاهدت بعيني الكثير من الأحداث الجسام التي عاشتها مصر وطني العربي الكبير.
هناك مبدعون حقيقيون على الشبكة العنكبوتية
المجلة الثقافية الجزائرية: الشبكة العنكبوتية خلقت طبقة من (الشعراء الافتراضين) الذين ينتجون نصوصاً متعثرة، فهل مازال المبدع قادراً على الخلود الإبداعي؟ أم أن الحلم بات صعب المنال أمام موجات الحداثة والمُغيرة لقيم الإبداع عموماً؟
محمد الشحات: نعم الشاعر الصادق والحقيقي موجود دائماً، ولا أحد ينكر بأن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت مجموعة ممن يظنون بأنهم مبدعون، ومع ذلك هناك مبدعون حقيقيون على الشبكة العنكبوتية، وأعتقد أن التصفح الجاد يستطيع التفريق، لا يمكننا أن نتجاهل أهمية شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن لابدّ لنا من توخي الحذر لعدم اختلاط الغثّ بالثمين .
المجلة الثقافية الجزائرية: بات إيجاد نص إبداعي قصير ومدهش هاجساً لدى كثير من المبدعين لمواكبة وتيرة الحياة المتسارعة ومتطلباتها في الإيجاز والتكثيف: من وجهة نظرك هل صعّب العالم الافتراضي حالة الإبداع أم العكس؟
محمد الشحات: العامل الافتراضي ساهم في نشر العمل الإبداعي، ولكن السؤال: المهم هل ما يتم نشره يصل إلى مصاف عمل إبداعي محكم؟! أعتقد بأن المبدعين الحقيقيين يمكن تمييزهم، وتمييز كتاباتهم، في الواقع إننا أمام شرائح كثيرة ومتنوعة من المتابعين، ولكل شريحة من هؤلاء المتابعين خريطة طريق خاصة بهم ومقاصد يتجهون إليها، وليس كل ما ينشر على شبكات التواصل الاجتماعي يحظى بنفس القدر من الاهتمام، ولكني أعتقد بأن هناك حد أدنى من هذا الاهتمام، وبالمحصلة الإبداع الجيد يجد من يهتم ويحتفي به، وهناك شرائح من المتابعين يسعون ويبحثون عن الشيء الجيد، والعملية تخضع لأذواق مختلفة، لكن أعتقد أن العمل الجيد دائماً ما يجذب إليه من يهتم به.
الإبداع الفني بمختلف أشكاله سيتأثر بكورونا لسنوات طويلة
المجلة الثقافية الجزائرية: وما رأيك بمن يرفض (القصة الشاعرة) ويعتبرها \”سحابة صيف ستزول\”؟
محمد الشحات: أنا لا أحب الحديث عن القصة الشاعرة، لأن من يهتم بها زميلي الشاعر محمد الشحات محمد، وكثيراً ما يحدث خلطاً بيننا، والمجال هنا لا يستدعى مني تقييم هذا الشكل، فله مريدين، وأقام حتى اليوم اثني عشر مؤتمراً سنوياً، وأعتقد أن الوحيد القادر على الحكم عليه هو المتلقي.
الإبداع الفني بمختلف أشكاله سيتأثر بكورونا لسنوات طويلة
المجلة الثقافية الجزائرية: كورونا فرضت على العالم قيود صحية صارمة ألقت بظلالها على المشهد الثقافي، في ظل هذا الواقع هل هناك خوف على الإبداع من التحجر؟
محمد الشحات: أنا أعتبر بأن مرور البشرية بوباء جماعي غيّر كثيراً من مناهجها الفكرية، ضرب الكثير من الثوابت لدينا، جعل البشرية مجتمعة تنتبه لوجود خطر داهم يهدد بقائها على الأرض، وشعر الإنسان ولأول مرة في جميع أرجاء الكون بأن وجوده في خطرـ ورغم اندلاع حربين عالميتين، إلّا أن الذي شعر بها من دخل إليها، والمناطق العربية منها، حتى الأوبئة القديمة، كانت دائماً ما تتعرض لها رقعة جغرافية محددة، ولكن كورونا جعلت العالم وكأنه يعيش في غرفة واحدة، وأعتقد أن الإبداع الفني بمختلف أشكاله تأثر كثيراً، وسوف نظل لسنوات طويلة نقرأ ونشاهد ونستمع لأعمال فنية مستمدة من تلك الجائحة، وأعتقد أننا نعيش في عملية مخاض سوف تسفر عن الكثير من الأعمال الفنية تتناول تلك الجائحة وتهديدها للجنس البشري.
المجلة الثقافية الجزائرية: في ختام هذا الحوار: بماذا يخصّ محمد الشحات قراء المجلة الثقافية الجزائرية؟
محمد الشحات: أخصّ قراء المجلة الثقافية الجزائرية بآخر ما كتبته من شعر:
وصية
أوصاني شيخي
ألّا أنظر خلفي
وأقاوم ما ينتفخُ بأوردتي
من رغباتْ
وأصدُّ الدنيا صدّ الموقِنِ
من أن نهايتها فتحٌ
لحياةٍ أرحبَ
كنت أراني
فوق حدود الخوفِ
أقاومه … ويقاومني
كي يُدخلني إلى دائرةٍ
محكمة الغلقِ
فلا أهرُبُ
ينقبض القلب وينتفض
مخافةَ ألا أقدر أن أصمدَ
فأظن بأني على مقدرةٍ
من أن أنفذَ من ثقبٍ
أحدثه ضيقُ الصدرِ
بجدران الزمنِ
فلا أقدرُ
. . .
أوصاني شيخي
ألّا أحتكم لعيني
وأُهادنها حتى تهدأَ
وأُطيلُ النظرَ
مخافةَ أن تلتبس الصورُ
فلا أعرف كيف أفرّقُ
ما بين حدودِ الأشياءِ
وأن أتفكَّر فيما يُتلى عليَّ
من الآياتِ
وألا ألوي عُنق الأحرفِ
أو أحبسها
بين ضفاف الكلماتِ
بل أتركها تتخيرُ ما تسكنُهُ
حتى تنضح برنينٍ يطربُنا
فأحاول أن أحتضن حروفي
وأشذبها
حتى تخرج في أبهى زينتها
. . .
أوصاني شيخي
أن أتوخى الحذرَ
مخافةَ أن تختلطَ الأوراقُ
فلا أعرف أيّ الحزبينِ أحقُّ
بأن يُتّبعَ
لم أدرك ما خلّفه الخوفُ
وما أسكنهُ بين ثنايا الرجفةِ
والرجفة
فارتبكت كلُّ مواطن ضعفي
حتى تهت
. . .
حدائق القبة 1اكتوبر 2021
للأسف نحن في الجزائر والمغرب العربي لا نعرف الكثير من الشعراء في المشرق العربي. الاعلام يركز على الرواية فقط..
لقاء ممتاز جدا. شكرا لكم
J’ai beaucoup aimé l’interview, c’était une chance de connaître un poète d’Égypte.. Merci beaucoup à vous