المجلة الثقافية الجزائرية

اخر المقالات

توارد الخواطر وعلاقته بترجمة الشِعر؟

بقلم: عامر كامل السامرائي

تُعتبر ترجمة الشِعْر من لغة إلى أخرى من المغامرات الإبداعية الشيقة التي قد تفتح آفاقاً جديدة ومثيرة في فكر المُترجم. ويمكنها أيضاً أن تأخذه في رحلة غير متوقعة، إلى عالم مليء بالتعابير والمفردات، ما يجعل فكره مستغرقاً، وحائراً في كيفية نقل كيان الجمال الشعري الذي بين يده من بيئته الأصلية، وتوطينه في بيئة مختلفة تماماً عن التي ولد فيها، ليعيش هناك ويمنح القارئ الجديد نفس المشاعر التي كان يمنحها لقارئه في بيئته الأم..

لذلك ينبغي على المُترجم حينما يُترجم قصيدة شِعريَّة أن يجد أفضل المفردات في لغته الأُم لتجسيد الأحاسيس والمشاعر التي عبَّر عنها الشاعر الأصلي في كلماته. ولهذا السبب بالذات يُعتبر هذا التحدي أحد أهم المظاهر لعملية توطين النص في بيئة مغايرة، بحيث تستطيع القصيدة المنقولة أن تعيش بشكل مقارب لما كانت تعيشه في بيئتها الأصلية. 

ولكي يستطيع المُترجم أن ينفخ فيها الروح من جديد يجب عليه البحث في ظلال الكلمة المرادفة التي لها نفس الوقع الموسيقي في نفس الشاعر في الأصل، بحذر ودقة يشبهان دقة الأذن الموسيقية لقائد فرقة موسيقية كبيرة يُعزف فيها على آلات مختلفة، تلك الدقة التي تعيد خلق الجمال وتضبط الإيقاع وتظهر الرقة التي تتميز بها القصيدة الأصلية.. 

وأثناء قيام المُترجم بذلك، ومن خلال انجذابه لجماليات اللغة التي يُترجم عنها وانغماسه في تعابيرها، لابد له وأن يَمُرَّ بحالةٍ تشبه حالة “الانتشاء”، والتي بدورها تنقله إلى عالم توارد خواطر الإبداع، ولكي يصل إلى تلك اللحظة الإبداعية، فهناك عدة عوامل تساهم في هذا التحول الرائع:

الانغماس في القصيدة الأصلية وشخصية كاتبها: فعندما يقوم المترجم بتحليل وفهم القصيدة الأصلية بعناية، فلا بد له وأن يغوص في أعماق فكر وشخصية الكاتب ومشاعره، باحثاً عن الدلالات المخفية، والرموز، والتعابير الفريدة التي استخدمها الشاعر لنقل ما يريد التعبير عنه وإيصاله للمُتلقي. 

هذا الانغماس يعزز الرؤية الشعرية للمترجم ويفتح أمامه أبواب الإبداع و”التوارد” الشعري.

الترجمة كعمل فني إبداعي: يعتبر المترجم شاعراً في ذاته إذا ما كانت له ملكة شعرية، حتى وإن لم يكن شاعراً، فعندما يقوم بترجمة القصائد الشِعرية. فعليه أن يجد أفضل الكلمات والتعابير التي تعبر بشكل دقيق عن المعنى والروح الشعرية للقصيدة الأصلية. هنا ينبغي للمترجم أن يطلق العنان لخياله وأن يستخدم أساليباً شعرية وصوراً ملونة وتشبيهات لغوية لإعادة إنتاج جماليات القصيدة بطريقة ملائمة للغة المستهدفة.

تحول المعاني والصور: أحيانًا، يواجه المترجم تحدياً في ترجمة كلمات أو صور توجد في القصيدة الأصلية وتعبر عن ثقافة أو واقع محدد. في هذه الحالات، يمكن للمترجم أن يتيح لنفسه حرية الإبداع والتوارد، حيث يستخدم الصور والمعاني المتاحة في اللغة المستهدفة لنقل الجمال والروح الشعرية بطريقة جديدة ومبتكرة.

التجربة الشخصية والتعبير الذاتي: ترجمة قصائد شِعرية يمكن أن تصبح تجربة شخصية للمترجم، حيث يجد نفسه مرتبطاً روحياً بالشاعر الأصلي ومشاعره وأفكاره. ويمكن أيضاً أن يشعر بتواصل عميق مع الشاعر وقصة حياته، وهذا التواصل يمكن أن يحفز الخيال ويعزز القدرة على التعبير الشخصي. في هذه الحالة، قد تتحول الترجمة إلى تجربة خاصة تجعل المترجم يعبر عن ذات الكاتب بأسلوب شعري فريد في اللغة المنقول إليها.

الاستكشاف والتجديد: عندما يقوم المترجم بتحويل القصيدة الشعرية إلى لغة مختلفة، فإنه يفتح آفاقاً جديدة للاستكشاف والتجديد الشعري. وبذلك يحق للمترجم تجاوز الحدود التقليدية وتجسيد القصائد بأسلوب متميز يحمل بصمته الخاصة. يستطيع أن يُقدم تفسيرات جديدة وتحولات للصور والمعاني، هو بالحقيقة نتاج أحدثه توارد الخواطر والإبداع الشعري.

ختاماً، أقول، بما أن توارد الخواطر هو عملية تدفق الأفكار والمشاعر والتأملات من وإلى العقل البشري، في أوقات مختلفة، وفي حالات مختلفة، فمثلاً عندما نكون بمفردنا أو نعيش تجربة مميزة أو نكون في حالة استرخاء وهدوء وانسجام، في هذه الأثناء يمكننا أن نرسل ونستقبل شتى المواضيع والخواطر التي تتدفق من وإلى عقولنا بشكل كبير، بدءاً من الأفكار الفلسفية والدينية وصولاً إلى العواطف والذكريات والأحداث اليومية، وأثناء الترجمة الشعرية أيضاً.